مقابسة المنفى

426

جمعة اللامي /

“لا يُعَدُّ سعيداً، مَنْ طَلَبَ ما لا يَجِدُ”
(كليلة ودمنة)

( لمناسبة مرور 41 سنة على فراق الوطن)
كم يبدو الطريق أليفاً؛ وأنيساً؛ ومهيّجاً للعواطف والذكريات؛ ما بين الشارقة وأبوظبي : تقود سيارتك الخاصة؛ أو تكتري حافلة صغيرة؛ أو تدسّ جسدك بين ناس من أجناس شتى، وجنسيات شتى، فيكاد الرمل يكلمك؛ والشجر يخاطبك؛ والبشر يُساررك؛ والسماء تعاينك!
إنه طريق مُعبّد؛ وكان في ذات يوم مضى من رَمْله الرمل، فلا أول له ولا آخر، ولا بداية ولا نهاية. تكاد تضيع بين جنباته، لأن الرمل رمل، شمالاً أو جنوباً؛ وهو كذلك شرقاً وغرباً.
والطريق هو الناس؛ والفكر؛ والعمل؛ والعلم؛ والفن؛ والأدب.
الطريق: الحياة . وعلى هذا الطريق؛ ما بين الشارقة وأبو ظبي، مروراً بدبي؛ استيقظ القلب من غفوته ذات يوم؛ وهاجت الذكرى، فحضر أبو الطيب؛ والعراق؛ وغار حراء، وبلاط الشهداء، وجبال الأوراس وبوابة الأطلسي؛ والكنعانيون؛ وجبل عاملة؛ وسهل نينوى؛ وعدن؛ والبحرين؛ ومستنقعات ميسان؛ والسماء.
نعم؛ حتى السماء. ذات فجر؛ والشمس مختفية وخجلى من نور العلي القدير؛ وعلى هذاالدرب؛ رأيت الأرض ترتفع نحو السماء. وأحسست بالسماء تقترب من الأرض؛ فاصطكت أسناني، وتجمّدت قدماي؛ وسمعت هاتفاً ينادي: “مَنْ محبوب غيري؛ أيها المهاجر بروحه؟ “. وما كاد صوت الهاتف يسيل مع امتداد حرف “الياء” الأخير؛ حتى نُشت السماء بسبابتي اليمنى؛ وَوَتَدْتُ كعب قدمي اليسرى بالأرض؛ وقلت: لا محبوب إلا أنت؛ تقدَّستْ أسماؤك؛ وتعالا اسمك؛ وعلا جلالك؛ وارتفع مقامك.
ثم توقف كلامي.
صار لساني جمرة باردة، باردة جداً. وصار جسدي كلّه جنّة من نور. لأن صوت الهاتف غمرني بكاملي، وهو يقول:
ــ ” اقترب”.
اقتربتُ.
قال الهاتف:
ــ ” ثم إقرأ “!
قرأت :
ــ “الحمد لله رب العالمين”.
ومع امتداد حرف “النون” امتدت السماء نحو الأعلى؛ ونزلت الأرض الى الأسفل؛ فرأيت في هذا الأوقيانوس من النور، ملاكاً كلّي البياض؛ يقود سفينة تجرّها ستة أحصنة؛ يومي إليّ قائلاً:
ــ ” اتبعني؛ لترى القمة”.
تبعته. واتبَعْته؛ ذلك العراقيّ الأبيض؛ وهو يقود سفينة الفكر والأدب والفن .
قال:
ــ ” ماذا ترى في؟ “.
ـ : “عربيّ “.
ــ “وماذا أيضا؟
ـ “عربي”.
ــ ” وماذا أيضاً؟”.
ــ “عربي”.