مواطن وحكومات!

787

حسن العاني /

اسمه الثلاثي “سلام ياقو جرجيس”، مواطن مسيحي من مواليد “أربيل-عينكاوه” 1967، انتقل مع أسرته الى مدينة السماوة بحكم وظيفة والده، وهو يومها في سن الرابعة، وكان قدر الأسرة أن تستقر في هذه المدينة التي أحبتها بعمق مثلما أحبتهم واحتضنتهم، واستمرت الحال كذلك حتى بعد إحالة الأب إلى التقاعد..

تشير السيرة الذاتية الى أن جرجيساً أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة والإعدادية في السماوة، وحصل على وظيفة في إحدى دوائرها الرسمية وتزوج من فتاة مسيحية من مدينة عينكاوه التي لم ينقطع هو ولا أسرته عن زيارتها حيث يقطن أقاربهم هناك، واستطاع أن يشتري بيتاً صغيراً وينشئ “عائلة” صغيرة..

قبل عدة سنوات، تعرض هذا المواطن البسيط الى عارض صحي طارئ، لم يُعره اهتماماً، واكتفى –كما يفعل فقراء العراق- بتناول بضعة أقراص طبية وصفها الصيدلي، وتماثل للشفاء، غير ان العارض الصحي نفسه داهمه بعد اسبوع واحد، ولم تنفع هذه المرة “وصفة” الصيدلي، ولهذا قصد المستشفى وحصل على علاج جديد، لكنه لم يشعر بأي تحسن، فالدوخة ووجع الرأس وفقدان الشهية ظلت تلازمه وهي آخذة بالتفاقم، وما هي الا أيام قلائل حتى استضاف جسده ألماً خفيفاً في المعدة لم يلبث أنْ اشتدّ وتفاقم، وهكذا بدأ الرجل رحلة مكوكية طويلة بين المؤسسات الصحية الرسمية وعيادات الأطباء الخاصة، وبين دكاكين الأعشاب الطبيّة، وأصبحت لديه إضبارة كبيرة من الأشعات وتحاليل الدم والسونارات والنواظير والفحوصات، وخزانة أكبر من شتى العلاجات والمسكنات، ولكن من دون فائدة، فصحته تسوء وألمه يتعاظم.. وأخيراً تشكّلت لجنة طبية، وكتبت تقريراً مفصلاً أوصت فيه بضرورة علاج المواطن سلام ياقو جرجيس خارج العراق، وبذلك أخلت اللجنة مسؤوليتها..

أخذ الرجل التقرير وهو في غاية الأمل والتفاؤل، وعرضه على “الحكومة المحلية” في السماوة وقد تعاطفت معه، ولكنها اعتذرت له، لأن قضية العلاج في خارج العراق هي من اختصاص او صلاحية “حكومة التوافق” المركزية في بغداد، وتوجه الرجل الى العاصمة، وتعاطفت معه حكومة التوافق، ولكنها اعتذرت له، لأن بطاقة أحواله الشخصية تشير الى أنه من مواليد أربيل، وبالتالي فإن “حكومة الاقليم” هناك هي المسؤولة، وقرار العلاج في الخارج ضمن صلاحياتها الحصرية. وباع جرجيس آخر قطعة ذهب تمتلكها زوجته وتوجه الى كردستان، وقد تعاطفت معه حكومة الإقليم، ولكنها اعتذرت له، لأنه موظف في حكومة المثنى المحلية، وحين قصدها كونها المسؤولة عن رعاية موظفيها، كما أفهمته حكومة الاقليم، أكدت الحكومة المحلية له بأنها متعاطفة جداً معه، ولكن الصلاحية الحصرية بيد “حكومة الشراكة” المركزية، وبعد ان باع بيته قصد حكومة الشراكة التي تعاطفت معه جداً ولكنها اوضحت له [مع انك عراقي، ولكن انتماءك الرسمي الى حكومة الاقليم بناء على مسقط رأسك]، فلما ذهب الى حكومة الإقليم قالت له بصريح العبارة [من غير المعقول أن تعمل في حكومة المثنى وأنت معافى، وحين تمرض يكون علاجك على حساب الإقليم]، وعاد الى حكومته المحلية التي أكدت له وأقسمتْ، ان الحكومة الاتحادية هي صاحبة الصلاحية، وتوجه الى المركز وسأل عن الحل فقالوا له: هذا الأمر يمكن ان تبُتّ فيه، عن قريب، حكومة الأغلبية والفضاء الوطني، وتساءل جرجيس عن طبيعة هذه الأغلبية فأخبروه: أنها تضم جميع الأطياف الدينية والمذهبية والعرقية، ومن لا يكون معها فباب المعارضة مفتوح أمامه على مصراعيه، وأراد ان يسأل سؤالاً أخيراً.. لكنه مات من القهر قبل أن يرى الفضاء الوطني!!