موسيقى الصمت!
جمعة اللامي /
“المحبون – أبداً، في وحدة،
ولو كانوا في أضخم الاجتماعات”
(غوته)
سأقول لمن يرفع بوجهي إصبع اتهام خجولاً، ويقول: إنك تكثر من ذكر الألماني: غوته، بأنك – أيّها المعترض، لا تعرف هذا الرجل حقَّ المعرفة، لا سيما صلته بالعرب والمسلمين، لا سيما اشتياقاته الأدبية ذات الطابع العرفاني، نحو الرسول الأكرم عليه أفضل الصلوات والسلام.
غوته، بحق، رجل الأزمنة والعصور كلها، فهو موسيقي، وشاعر، ومسرحي، وعالم في شؤون العناصر والحشرات والأزهار ودبلوماسي، وعاشق من طراز فريد، حتى وهو يتجاوز الثمانين من عمره.
وفي أخريات أيامه، انكبّ على دراسة “ألف ليلة وليلة” وكتب على منوالها، حتى لقد خيّل إليّ، حين كنت أقرأ كتاباً في شأنه حَبَّرتهُ فاضلة ألمانية تجيد العربية، أن صاحب “فاوست” ما زال يثق أنَّ “شهرزاد” سوف تطل عليه في وحدته، من مكان ما في هذا العالم، لأن هذا الرجل مُحب من طراز لا قبل لكثيرين به، فقلبه هو المحب الذي يسع الدنيا، كما يقول بتهوفن .
لنفكر في رجل يعزف الصمت!
ولكن، لماذا رجل؟ ولم لا يكون الذي قصدته امرأة؟ والحق أقول لكم – إني أردت بموسيقى الصمت: امرأة، وكان في ذهني أن عازفة الصمت امرأة. ولك بعد ذلك وقبله أن ترى – رعاك الله، أيّ تاج فوق رؤوس المحبين، حتى وهم يبتعدون عن بعضهم آلاف الكيلومترات، كما كانت قصة “جبران” و”مي”.
قَصّ عليّ، غريب المتروك، قصة قصيرة، ذات يوم، فقال: تتحدّث قريتنا، إلى يومنا هذا، في حكاية “جميلة المجنونة” و”جميل المجنون”. قال كبار القوم: كانت “جميلة” تتكلم بالإشارة مع أعالي النخيل، وذؤابات السحب، والطيور المهاجرة، والنهر الهادئ أو المصطخب، ولا تلقي بالاً لأيِّ من أبناء جنسها.
وكان “جميل” لا يشاهد إلا باكياً، عند المسجد، وقرب شريعة النهر، وفي موسم الحصاد، وعندما يُزفُّ عريس شاب إلى عروسه. لكنه حين رأى جميلة ذات ظهيرة، كفكف دموعه، ونطق باسمها عالياً: جميلة … جميــ …. لة !
عدَّ بعض قومنا ما حدث بين جميل وجميلة ضرباً من جنون، فقال قائل من بينهم: “جميل المجنون”. وقالت امرأة لم تذق الحب ولم تعرف عذاباته: “جميلة المجنونة”.أما تلك المرأة التي تعيش وحيدة في كوخها، عند الطرف القصي من قريتنا، وكان اسمها “عفراء”، فقالت في إحدى نوباتها: جميلة تَغزل السُكوت!
والحكاية، بعد ذلك – ما تزال على ألسنة ناس قريتنا، يرويها الرائح للغادي – حتى بعدما اختفى “المجنونان” من دون أن يتركا أثراً خلفهما.
سكت غريب المتروك لُحيظات، ثم سألته: بم تفكر يا صاح! .
قال كأنما يتلو أسطراً من كتاب حبه: ما أزال أعزف موسيقى الصمت سنة بعد أخرى، حتى صرت الموسيقى والوحدة في آن.