مُدُنُنا وأبناؤها

363

جمعة اللامي /

“إن اللهَ خَلَقَكَ حُرّاً. فكنْ كما خَلَقَكَ اللهُ”
(بِشر الحافي)
سافر غريب المتروك وزينب إلى بغداد، وتركاني أُعيد بناء حكاية معروف الكرخي مرات ومرات، تارةً مع الجِدار الذي يقابلني، وأخرى بين يدي الصمت الذي يُحيط بي من كل صوب، وتارة ثالثة ودائمة قُبالة ذاك الذي وقف أمامه معروف الكرخي، صائماً خائفاً، كأنما يُقْبضُ اللحظة.
قالت زينب:
ــ”كيف يخاف الإنسان من أيّ نازلة، وهو الذي لا يخشى إلاّ الله تعالى؟”.
وتردد عند سمعي صوت صاحبي:
ــ “يقول معروف الكرخي: توكل على الله، حتى يكون هو مُعلّمكَ وأنيسكَ وموضع شكواك”.
وكان الكرخي من أسرة مسيحية قبل أن يُسلم، أرسلته أمه إلى “الكُتّاب” لينال قسطاً من العلم. فكان يُردد: “أحَدْ. أحَدْ” بينما كان المعلم يريده أن يقول: “أَبٌ، ابن”.
وهرب الكرخي من عائلته، بحثاً عن الـ “أَحَدْ. أَحَدْ”، ليجده في قلبه، على يد الإمام عليّ بن موسى الرضا ــ عليه السلام، كما يذكر ذلك شقيقهُ عيسى، فأسلمت أسرته كُلها على يديه. وكانت أمه نذرت ذلك لله تعالى.
قبل أيام قليلة اقترب الغُزاة من غزة ــ فلسطين، يدفعهم الحقد والطمع والضغينة، ويُحرُضهم على الإساءة لهذه المدينة المناضلة، تاريخها الذي هو تاريخ الكرخي وأشياعه من الناس المتألّهين الذين يبدَؤون يومهم مُصليّن أو صائمين. وقبل تلك الأيام القليلة، كانت ثمة أقوام أخرى غزت بغداد، وقبل هؤلاء جميعاً، كان بعض ناس بغداد المتجبرين وأصبح هؤلاء جميعاً أقلّ من حرف في كلمة، بينما بقيت بغداد أستاذاً في كتاب الكون ودستور الوجود.
وصاحبي المتروك، هو العراق وفلسطين، رغم الأيام الصعبة والتضحيات الجمّة، وهو الذي كان يخاطب ربه عزّ وتعالى شأنه:
ــ “اللهم إن بلداننا ومدننا تحت يديك”