مُلَيْكة وأُحَيْحَة .. وآخر التَبابيع!

662

جمعة اللامي /

تخيّرها نوحُ فما خاب ظنّهُ
لديها، وجاءت نحوه بالبشائرِ
سأُودعها كُتبي إليك فهاكَها
رسائل تُهدى في قوادمِ طائرِ

(ابن حزم)

يستخدم المحبّون والعشّاق، السفراءَ فيما بينهم، يحملون رسائل الحبّ والوجْد والاعتذار، أو هدايا ثمينة بينها الذهب والزمرد والسيارات واليخوت، وبينها ــ أيضاً – أبيات شعر أو صورة لقلب وقد طُعن بأكثر من سهم!
وفي أيامنا هذه، صارت الهواتف المتحركة سفيراً مُفضّلاً بين العشّاق الشباب، إذ تكفي “كبسة” على أزرار الهاتف النقال، لتَحْبير رسالة من دون حبر لا تُفرّق بين الماضي والحاضر، وبين الفاعل والمفعول به. وهم في هذا أحرار كما يقولون، لأنهم في زمن العولمة والحرية، بينما كان أجدادنا يتخيّرون أشرفَ أنواع الحمام نَسلاً، لتسفيره بينهم وبين مُحبّيهم، كما يقول “ابن حزم” في البيتين اللذين استبقنا بهما هذه الديباجة.
ويُبرر “ابن حزم” استخدامه الحمامة سفيراً، بقوله: “وإني لأعرف من كانت الرسول بينهما حمامة مُؤدبة، ويُعقد الكتابُ في جناحها”، ثم تطلق إلى الفضاء، فلا تضلّ طريقها، ولا تشي بمُرسِلها إذا ما وقعت في أيدي غير المقصود. والمحبون، حتى حمامهم، مؤدب!
وفي أيام “ابن حزم الظاهري” كان المتحابون العشاق يُسفرون فيما بينهم، خاملاً لا تتوقف عنده أعين الرقباء، أو جَليلاً في قيامه وقعوده لا يقترب منه الظن. وهناك من احتاط لأمره فاختار الحَيْزبون الدردبيس، سفيراً بينه وبين محبوبته، وبعضهم لم يعدم الطبيبة والحجّامة والسرّاقة والدلاّلة والماشطة والنائحة والكاهنة والمُعلّمة والمستخفّة.. والمُغَنيَة.
ومن هاته الأخريات، المدعوة: مُلَيْكة، التي قامت بمُهمّة السفارة، بين ملك وملك، فأدّت ما اُستُؤمنت عليه، وأنقذت رقبة حبيبها المدعو: أُحَيْحَة بن الجُلاح، من فَتكِ “أبي كرب تُبّع بن حسّان”. ويُوصف تُبّع بن حسّان هذا بأنه “التُبّع الأخير” وكان شديد البأس، ويُقال إنه قَدِمَ إلى يثرب، ثم خلّف فيها ابناً له، قُتل غيلة فيما بعد، فعاد “تُبّع الأخير” وهو ينتوي تخريبها تماماً، ويقلب ما فيها رأساً على عقب، ثأراً لابنه المُغال.
وقد ضرب “تُبّع الأخير” خيامه عند سفح جبل، فوفد إليه بعض وجوه يثرب، وبينهم أُحَيحَة هذا، مع قينته مُلَيكة، فقابل الرَقمُ اليمانيّ ذاك، فعرف أنه هالك، فعاد إلى قَينته، وأمرها أن تغني أبياتاً جميلة من شعره، منها:
لتبكني قَينةٌ ومزهرها
ولتبكني قهوةٌ وشاربُها
وقال أُحَيحة لمُليكة: سوف يأتي جند الملك إليّ، فتعلّلي بأسباب مُخترعة فيك، فإذا أخذوك إلى “تُبّع” فقولي له: “يقول لك أٌحَيحة: أُغدر بقينة، أو دَعْ”.
وأَنعم بها سفيرة، تلك القَينة، بحسن تدبيرها، وبجمال صوتها!