نهاية البطل!!
حسن العاني/
أكثر من 21 سنة أمضيتها في مهنة التعليم، لا تعدُّ زمنا يسيرا، خاصة انني تنقلت بين القرية والمدينة، وبين الرصافة والكرخ، وبين بغداد وحرير وأربيل، تجربة غنية، ومئات الوقائع والطرائف والصور والأحداث مازالت تشكل العناصر الرئيسة لمخزون ذاكرتي وذكرياتي، ففي هذا العالم التربوي تنشأ علاقة فريدة من نوعها بين رجال ونساء هم آباء وأمهات أو في طريقهم الى ذلك، وبين أولاد وبنات بعمر الورود الفتية.. وهكذا تشهد المدارس في كل يوم ولادة حكايات جديدة أو متشابهة أو مكررة.. واحدة من أكثر تلك الحكايات غرابة ومدعاة للدهشة، جرت تفاصيلها أمامي، ولم أكن شاهد عيان عليها فقط، بل كنت كذلك أحد اطرافها، حيث شاءت المصادفة في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي – والحرب على أشدها- أن أعمل مع مدير مدرسة من طراز لا يشبه الا نفسه، فأنا أعرف بحكم الخبرة والتجربة، إن هناك مدراء متشددين بتطرف، ويفتقرون الى روح الزمالة والود مع ملاك مدارسهم، وكأنهم من طبقة والمعلمين من طبقة، ومثل هذه النماذج التي لا تجيد لغة التفاهم والمرونة، وتطبق القوانين بطريقة متشنجة، وتنقصها اللياقة (يمكن) أن نتلمس لها عذراً أو نلتمس تبريراً، بداعي الحرص المفرط وأمانة المسؤولية ومصلحة العملية التربوية، الى آخر هذه السلسلة الطويلة من الأعذار الواهية، ولكن هذا الرجل، أعني المدير ذا الطراز الفريد، وكنيته (أبو صباح) – العراقيون يعتقدون إن الكنية.. أي أبو فلان أو فلانة.. هي من دواعي الاحترام في التخاطب- لم يكن متشدداً أو حنبلياً أو متطرفاً في النظر الى القانون وإسلوب تطبيقه، وإنما في أقل الأوصاف رأفة به، كان شيئاً من الجبروت المسلط على رؤوس زملائه، وشخصية ورثت عقلية الفرعون وستالين وصدام حسين، ولعل صورة من عشرات الصور السلوكية له، إنه حوّل غرفته الى غرفة وزير، يجلس فيها وحيداً، ولا يسمح لأحد من المعلمين الاقتراب منها، ناهيك عن دخولها، لأن لهم غرفتهم الخاصة بهم، ولو اقتضت الضرورة أن يصل احدهم اليه، من أجل طلب اجازة أو استمارة مراجعة المستشفى، أو حالة مدرسية طارئة، أو أية قضية من أي نوع، فعليه كتابة ورقة أقرب ما تكون الى العريضة، يذكر فيها أسباب لقائه، ويقوم بتسليمها الى الفراش (المعين) الذي يتولى ايصالها الى المدير، وقد يأذن للمعلم بالمواجهة أو لا يأذن!! لم تكن لهذا الرجل مميزات تمنحه كل هذه النرجسية العدائية والتصرفات الفوقية، اللهم الا درجته الحزبية المتقدمة على ما يبدو، والتي استغلها في تحول المكان من غرفة إدارة مدرسية، الى مقر للاجتماعات، ولكن السؤال الذي مازال يؤرقني: هل كنا جبناء أم مسالمين أمن نتجنب دوخة الرأس، بحيث اكتفينا بأضعف الايمان، وبصدور عامرة بالغيظ والصمت المطبق، فلم نعترض يوماً أو نرفض أو نحتج، ربما خوفاً من الظهر القوي الذي يستند اليه المدير، وما وفره هذا الظهر المتعافي من قوة غاشمة لا قدرة لنا على الوقوف أمامها وجهاً لوجه!!
لا يصح الظن بأننا جبناء الى هذا الحد، فقد كنا نوجه اليه سيلاً من الشتائم المكررة او المبتكرة في جلساتنا الخاصة، وبأصوات منخفضة، وكأن بطارياتنا غير مشحونة، غير إن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لزميلنا (أبو محمد) معلم الرياضة، ذلك الرجل الذي يحمل أخلاق القرية ويتحلى بشجاعتها، ولا تأخذه في الحق لومة لائم، لم يتحرج يوماً أو يتحدث بصوت واطئ أو هامس، وهو يشن حملات علنية قاسية ضد المدير، ويطلق عليه لقب الطاغية المغرور!! أبو محمد وحده من قال للمدير بحضورنا جميعاً، ووجهاً لوجه “أنت لا تصلح للادارة، لأنك طاغية، ولا يشرفني العمل معك.. طز!!”، ومع إننا كنا نرتعد خوفاً، إلا ان تلك المواجهات كانت تغمرنا سعادة، لكونها تعبر عن مشاعرنا الحقيقية وأصواتنا المخنوقة، وننظر اليه بمقاييس البطل الذي نتمنى تقليده ولا نقدر.. ذات يوم فوجئنا بصدور أمر إداري يقضي بتعيين (أبو محمد) معاونا للمدرسة، وإذا المدير يهيء له منضدة الى جواره، وإنتقل من غرفة المعلمين الى غرفة المدير، وبات الوصول اليه لا يتم الا بطلبٍ وإذنٍ، والمرة الوحيدة التي رأيناه فيها كانت في اجتماع عقده المشرف التربوي، والجملة الوحيدة التي نطق بها هي “أنا متفق تماماً مع كل كلمة قالها المدير” ولم نشعر لحظتها بالحزن على فَقْدِ أمهاتنا كما انتابنا الحزن أمام ذلك الموقف، لأن الطاغية أصبح طاغيتين، وقبل ذلك لأن البطل مات!!