هؤلاء علموني

626

د. كريم شغيدل /

لا تجد بين مثقفي القرن المنصرم وقرائه إلا القليل ممن لم يقرأ للكاتب والمفكر المصري القبطي المسيحي سلامة موسى، كما لا نجد إلا القليل ممن لم يقرأ لعالم الاجتماع العراقي المسلم الشيعي علي الوردي، وكذلك الأمر بالنسبة لطه حسين المصري السنّي الأزهري. والكلام ينطبق على الكثير من الكتّاب والمفكرين العرب بمن فيهم اليهود كمير بصري وأحمد سوسة الذي أسلم فيما بعد، والأمر ذاته مع الشعراء وعموم الأدباء من مختلف الأصول والمذاهب، بعض أولئك شكلوا ظواهر ثقافية، وأسسوا لخطاب ثقافي عام، لا يقتصر على النخبة، وإنما يشمل مختلف فئات المجتمع. ولم يخطر على بال أحد أن يسأل عن هوية هذا أو ذاك، كثير من كتّاب ذلك الزمن حققوا انتشاراً واسعاً لسبب واضح هو عمق الأفكار وبساطة التعبير عنها، فسلامة موسى كان من دعاة تبسيط الأفكار، وهو كان أشبه بالملخَّص لما تغذى عليه من أفكار تنويرية أثناء وجوده ودراسته في فرنسا وإنجلترا، فقد لخّص نوعاً ما أفكار ماركس والاشتراكيين ونظريات علم النفس الحديث وتجاربه، وأنا واحد من الذين تتلمذوا على كتبه في البدايات الأولى.

ربما هناك كتّاب يميلون للسخرية والفكاهة ويحظون باهتمام القراء لهذه الميزة، لكن غالبية كتّابنا اليوم يميلون للتعقيد والمصطلحات الغامضة والصياغات التي تشتت ذهن القارئ. تفتقد كتاباتنا إلى البساطة، الأجيال الجديدة تحتاج لمن يلخِّص وينير لها طرقات البحث في الفكر الاجتماعي والنفسي وسائر العلوم، لا بطريقة التسطيح والخطاب الدعائي أو المواعظ الفجّة، نحتاج إلى عمق وسلاسة في التعبير يستدرجان القارئ للمسارات الثقافية المختلفة، نحتاج أيضاً إلى قارئ من عامة الناس، يقرأ من دون أن تكون لديه نيّة مسبقة للكتابة، فغالبية القراء اليوم هم شعراء وكتّاب وفنانون، ليست لدينا أيضاً كتب موجهة للعامة إلا القليل، ومنها كتب علي حسين (سؤال الحب، وفي صحبة الكتب، ودعونا نتفلسف) التي رفد بها المكتبة العراقية دفعة واحدة واستعادت في ذهني كتاب سلامة موسى(هؤلاء علموني).

عندما كنت صبياً كانت تلفت نظري كثرة المكتبات في شارعي الرشيد والسعدون، فضلاً عن باعة الكتب المتجولين الذين يضعون كتبهم في عربات، ويعلنون عن بضاعتهم كما لو أنهم يبيعون سلعة استهلاكية عادية حالها حال بقية السلع، يقتنيها المارة، وغالباً ما كانت الكتب روايات مترجمة وأخرى عربية بأغلفة تجارية تشبه مانشيتات الأفلام السينمائية وصورها، وكثيراً ما كنت أسمعهم ينادون: (كتاب بربع دينار أو بمئة فلس أو بدرهم)، وكان الأستاذ الجامعي يلقي محاضرته ويدون الطلبة رؤوس أقلام ثم يتوجهون إلى مكتبة الكلية أو الجامعة للبحث عن الموضوع في مصادر عدة، وطالب الكلية كان يأتي من الإعدادية وقد قرأ كتاباً من هنا وآخر من هناك، وعموماً نحتاج إلى كتّاب تنويريين سلسين وقرّاءَ منفتحين لكي تصبح الثقافة سلعة أسوة ببقية السلع التي يقتنيها الفرد لأسرته.