هتافات عراقية !!

237

حسن العاني /

في طفولتي التي تعود الى خمسينيات القرن الماضي، كنا نشارك في التظاهرات الجماهيرية بحماسة غريبة تفوق حماسة الشباب واندفاعهم، علماً بأننا كنا نحب الملك ولا ندري ماهي (مطالب) الجماهير، فنحن نردد معهم (يا.. يعيش) أو (يا.. يسقط)، حتى إذا لاحت لنا الشرطة على بعد عشرين كيلومتراً، كنا أسرع من الغزلان البرّية في الهرب والاختفاء، إذ كان (حضورنا الفاعل) في تلك التظاهرات طمعاً في (تعطيل) الدوام المدرسي!!
كان الشاب المحمول على الأكتاف يقول – على سبيل المثال – (يعيش نضال الشعب العراقي) وينهي هتافه بمفردة (يا) ، يكررها ثلاث مرات، ومع كل مرة تهتف الجماهير [ يعيش] ، وقد يهتف بعبارة أخرى على غرار [ يسقط الاستعمار وعملاؤه.. يا ] وبالطريقة نفسها يكرر ( يا) ثلاث مرات، ومع كل مرة تهتف الجماهير (يسقط).
ظل الأمر كذلك حتى عام 1963، فلأول مرة سمعت هتافاً جديداً خرج عن المألوف، فقد رأيت مظاهرة تجوب شارع الرشيد نظمها حزب البعث، وكان المحمول على الأكتاف يقول [ اِعدمْ ] والجماهير من بعده تقول (جيش وشعب وياك يا مجلس الثورة ]. ومنذ ذلك التاريخ أخذت التظاهرات وأساليبها وهتافاتها صيغاً غير مسبوقة. ففي عام 1964، أي بعد الانقلاب العارفي على انقلابيي (8 شباط 1963)، نظمت السلطة العارفية تظاهرة غريبة الهتاف وهي [ جيم ..جيم ..جبهة ، مابيها بعثية، بيها عرب وكراد ضد الشيوعية!!) غير أن عودة البعثيين إلى السلطة مجدداً في عام 1968 ، أعادت الهتافات القديمة إلى سابق عهدها.. يا.. يعيش / يا.. يسقط!
الجديد بعد 1968 هو ما حصل في 7/17/ 1979، عندما تولى صدام حسين مقاليد السلطة بديلاً عن أحمد حسن البكر، فمنذ ذلك التاريخ ولغاية 9/4/2003 توقفت التظاهرات تماماً، وحلّت محلها (مسيرات، أو تجمعات، أو ندوات.. الخ)، فإذا هتف أحد المواطنين قائلاً [ الموت للخونة والمتآمرين… عاش العراق ] هتفت الجماهير من بعده قائلة [ بالروح بالدم نفديك يا صدام ] .
وأياً كان نوع الهتاف.. كالمطالبة بافتتاح جامعة مثلاً، أو بناء جسر أو زيادة رواتب، فإن الجماهير لا تغادر عبارة (بالروح بالدم .. الخ )!!
بعد 2003، يصعب التعرف على طبيعة الهتافات الجماهيرية، لأن الجماهير فقدت صوتها الموحد القديم، وتحولت إلى كتل وطوائف وأحزاب وتيارات.. لكن الأمر الغريب هو أني، منذ بضع سنوات خلت، شاهدت -للمرة الثانية- فلماً مصرياً قديماً من أروع الأفلام الاجتماعية والعاطفية والسياسية، وقد وردت فيه العبارة التالية [ جواز – زواج عتريس من فؤادة باطل ]. ومنذ ذلك اليوم وأنا أحلم أحلاماً عجيبة، إذ أرى تظاهرة عراقية تهتف مثلاً [ زواج بريمر باطل ]، وآخر مرة رأيت فيها الشاب المحمول على الأكتاف وهو يهتف [ زواج العاني من نانسي باطل ] أو [ زواج طارق الأعرجي من هيفاء وهبي باطل ]. يبدو أن الهتافات انتقلت إلى الرموز والعقل الباطن والأمنيات المكبوتة.. وهذه مشكلة عويصة، لأن (الباطل)، على مايبدو، راح يلازمنا في الليل والنهار والسر والعلن واليقظة والحلم!!