هل نحرق الكتب التي ألّفناها؟

12

 

عبد المنعم الأعسم

منذ سنوات أشار تقرير التنمية الإنسانية العربية، الصادر عن صندوق الأمم المتحدة للتنمية، إلى أن الشباب العربي “لا ينفق من زمنه اليومي الحر، الذي يبلغ في المتوسط 6 ساعات و40 دقيقة، سوى دقيقتين للقراءة.” وطوال هذه السنوات، كان الإحباط يصيب المؤلفين جراء تراجع الإقبال على قراءة ما يكتبون ويؤلفون. وثمة حكاية في بغداد مسرحها مقهى الشابندر في شارع المتنبي، إذ دخل شاب وقور إلى المكان وعلى كتفه حقيبة جلد تنوء بمحتويات تبدو ثقيلة. توقف، ثم استعرض القنفات الخشبية بحثاً عن أحد. ثم أخرج من حقيبته أربعة من الكتب قام بتوزيعها على أشخاص منتخبين، وخرج يسحب معه ابتسامة رضا واطمئنان. كان ذلك كتابه الجديد الذي صدر توّاً ونشرت عنه الأبواب الثقافية في صحف العاصمة أخباراً إضافية، جعلته سعيداً بأن مؤلَّفه سيحظى باهتمام القراء، وفي الأقل الأصدقاء المهتمون بالثقافة والكتاب.
بعد منتصف ذلك النهار غادر روّاد المقهى، فيما حمل المنظفون، إلى زاوية المهملات، ثلاثة كتب تركها أصحابها على طاولات الشاي الصغيرة. وفي المنزل كانت للمؤلف مجادلة محبطة مع زوجته التي كانت تضيق بصندوق كتابه هذا.. فلا مكان له في منزل بغرفة واحدة وصالة صغيرة، وذلك قبل أن يسمع بمصير الكتب الأربعة التي وزعها في مقهى الشابندر.
على أن ازمات التأليف والكتاب كانت تضرب بعض العصور العربية القديمة، إذ اضطر أبو حيان التوحيدي إلى إحراق كتبه في أيام قال عنها أنها “نحسة”، وجاءت في كتابه “المقابسات” شكوى الحال من تأليف الكتب بقوله: “إلى متى الكسيرة اليابسة والبُقيلة الذاوية، والقميص المرقع.. وقد، والله بُح الحلق وتغيُر الخلق.” ثم أورد أنه أحرق كتبه بيده قائلاً: “ما ظننت بأن الدنيا ونكدها تبلغ من إنسان ما تبلغ مني.” كما أقدم معلم الفراهيدي “أبو العلاء”، الأديب البصري الشهير، على طمر كتبه في باطن الأرض ولم يعثر عليها بعد موته، متذرعاً، في ساعة يأس بـ “لا جدوى العلم في زحزحة الجهل.” فيما ألقى داود الطائي، الملقب بـ (تاج الأمة) بكتبه إلى أمواج البحر مخاطباً إياها: “لا فائدة ترتجى.. فقد أعشى بصر القلب بصر العين.”
لكن الأديب المراكشي يوسف بن اسباط حمل كتبه، الزاخرة بالمواجيز العلمية والاكتشافات والفلسفة، إلى حفرة في جبل عصي على الوصول، وقد أتلفها هناك وهو يردد القول: “دلنا العلم في الأول، ثم كاد يضلنا في الثاني، فهجرناه.” أما “سفيان الثوري”، الذي هجا الاستبداد الأموي وحاصره المستبدون، فقد اكتفى بتقطيع أوصال ما يزيد على ألف جزء من مؤلفاته، ووقف على رابية ليذرو القصاصات رياحاً عاصفة، وعثروا عليه وهو يردد: “ليت يدي قطعت من هنا، ومن هنا، ولم أكتب حرفاً.”
إلى ذلك، أشار فهرس ابن النديم، المعروف بفهرسة كتب العرب ومصائرها، إلى ضياع مؤلفات وفيرة بين الحرق والطمر وموجات الاستبداد التي ضربت الدولتين الأموية والعباسية، وقد تفضل بالتذكير عما فُقد من الكثير. وتحدث بهذا الصدد عن مذابح تعرضت لها مكتبات تضم أمهات الكتب، كما حدث لمكتبة “آل عمار” في طرابلس الشام، التي أحرقت خلال حروب القرن الحادي عشر، وفقد منها ما يزيد على نصف مليون من أمهات الكتب والمصادر.