هوايات منقرضة
د. كريم شغيدل/
طفولتي المبكرة في شارع الرشيد ومدرستي الابتدائية فيه أتاحتا لي فرصاً كثيرة لاكتشاف الأشياء خلافاً لأقراني من أبناء مدينتي، فقد اطلعت مبكراً على مجلات الأطفال مثل ميكي ماوس وسوبرمان والوطواط ولاحقاً مجلتي والمزمار. تعرفت عن طريق المجلات على هواية جمع الطوابع القديمة، وكذلك المراسلة والتعرف على أصدقاء من مختلف البلدان، صبايا وصبيان ينشرون صورهم في المجلات لهم هوايات مختلفة كجمع الطوابع والعملات والرسم والرياضة والقراءة والتعارف والمراسلة. كانت هناك شبكة واسعة للتعارف وتبادل الآراء والتواصل الاجتماعي عبر البريد، اختفت تلك الشبكة تدريجياً مع اختفاء ساعي البريد وظروف الرسائل والطوابع، ومعها تلاشت مشاعر الود التي تجمع أشخاصاً لديهم تطلعات لمعرفة الآخر. طبعاً هذه القضية لم تقتصر على صغار السن، بل كانت هناك شبكة تجمع الشابات والشبان، وكانت المجلات آنذاك تفرد صفحات كاملة للتعارف، وهذه الظاهرة بدأت بالانحسار قبل اختراع شبكة الاتصالات الإنترنيت وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي(السوشل ميديا).
اليوم لا حاجة بنا للتحدث عن وسائل اتصال ومراسلة وهوايات بسبب الفضاء المفتوح الذي وفرته ثورة المعلومات وسعة مواقع التواصل الاجتماعي التي لم تترك شيئاً مخبوءاً، لا نحتاج إلى صفحات وصور ولا إلى ظروف وطوابع ولا ننتظر ساعي البريد، مفردات ثقافية كثيرة اختفت عن حياتنا، هوايات كثيرة أصبحت كالفلكلور الشعبي، فالانفتاح وشبكات التعارف المباشر بلغت حداً يفوق الخيال، ومعها فقدنا حميمية الرسائل المكتوبة بخط اليد ومزينة بالشموع والورود والفراشات، فقدنا فرحاً بريئاً بطابع بريدي لا يتعدى ثمنه الخمسة فلوس، ومع ذلك يشكل قيمة معنوية. كانت هناك محال خاصة ببيع الطوابع ولطالما اقتنيت بمصروفي اليومي الذي أجمعه لثلاثة أيام أو أكثر مجموعة من الطابع ذاته ولكن بألوان مختلفة (سيت). الطوابع الملصقة على الظروف نستخرجها بطريقة فنية إذ نلقي الظرف بإناء ماء حتى يذوب صمغ الطابع وينفصل ثم نقوم بتجفيفه. إلى حقبة التسعينات كانت لدينا صناديق بريد، ونتواصل بالطريقة التي أصبحت بدائية مع دخول البريد الإلكتروني الذي سارعت للدخول فيه بعد استقراري للعمل في ليبيا.
قصص وروايات وقصائد وأغانٍ وأفلام سينمائية بنيت على ثيمة البريد وانتظار الرسائل، لعل أشهرها فيلم (ساعي البريد لا يطرق الباب مرتين) الذي شاهدته في سينما الخيام أيام الشباب وكان حديث الشارع العراقي. ومع انتفاء الحاجة للبريد نكون قد فقدنا نصاً مكتوباً لنقل المشاعر الإنسانية وتواصل الناس مثلما فقدنا هوايات التعارف والمراسلة وجمع الطوابع والعملات وتبادلها بين الأصدقاء. كان هناك بريد قديم تتصدره صناديق حمراء اسطوانية الشكل وأمامه مظلة لشرطي المرور في التقاطع المؤدي إلى ساحة الخلاني ،جسر السنك حالياً، لا تزال صورته عالقة في مخيلتي وقد شُيدت على مكانه بناية البريد المركزي التي كانت تحتوي على طابق للتجسس على هواتف المواطنين أيام النظام المباد.