وسط العركة!
بيان الصفدي /
وقفت محتمياً بأحد أعمدة الشارع الضخمة. كان شارع الرشيد خالياً تقريباً عندها، ولأول مرة أتابع بشكل حي تبادل إطلاق نار بين رجال أمن وبعض المسلحين، والرصاص يتراشق من حولي، وشعرت ببخورة وقوفي، لكن لم يبقَ لي مجال للانسحاب إلى داخل المقهى.
لم تطل المواجهة، ورأيت رجلاً مصاباً مقبوضاً عليه وآخر مضرجاً بدمه يستغيث، وإلى جانب عمود آخر –بموازاتي- رأيت الصديق الأديب موسى كريدي (رحمه الله) مستطلعاً مثلي وبهدوء من خلف عمود آخر، ثم انطلقت سيارات عدة بمن فيها. عاد موسى بعد انتهاء الحادث يلومني كأخ كبير، وأن تصرفي كان خاطئاً، والأفضل لو أني فعلت كالآخرين، وأنك لم تأتِ إلى العراق لتعرض نفسك للخطر، إضافة إلى الغربة، لكنه لم يخفِ إعجابه برباطة جأشي خلال الحادث، وراح يروي الأمر كطرفة.
أما الحدث البالغ الطرافة الذي حصل معي، فقد جرى في فترة الحرب أيضاً، ولا يمكن أن تنسى تفاصيله الكاريكاتيرية، فقد كنت خارجاً مساء بصحبة صديقي علي المندلاوي من دار الجماهير عند جسر الصرافية، وإذا بعركة كبيرة بين أناس من الحي الشعبي الملاصق للدار، والمعركة تدور بين نساء ورجال على الرصيف، فاندفعت نحو المشهد وعلي يرجوني أن أترك فضولي لنتابع مشوارنا، فقلت له بأنني سأرى ما الذي يجري فقط وأعود حالاً، وما إن اقتربت من ساحة العركة وإذا بسيارات نجدة شيفروليه كبيرة عدة تتوقف بسرعة هائلة، وينزل منها رجال شرطة، وبسرعة البرق حشوا سياراتهم بالمتعاركين، فوجدت نفسي -وأنا مذهول- في إحدى تلك السيارات، كانت السيارة التي حملتني فيها سائق وشرطي بكرش كبيرة إلى جانبي ورجال ونساء عدة يتصايحون، وكنت كلما حاولت أن أقول للشرطي أن لا علاقة لي بالحادث يصرخ في وجهي: “انشب”، وتكرر الأمر فصمتُّ مكرهاً بعد أن صارت كلمة “انشب” مترافقة بلكزة من كوعه! وكان علي مذهولاً ومرتبكاً من مشهدي داخل السيارة، كما لمحته.
انطلقت السيارات بنا كالبرق، وبعد دقائق وصلنا إلى مركز الشرطة، وحتى عندما نزلنا، أعدت محاولاتي اليائسة مع الشرطي ذي الكرش بلا جدوى، لكنه ظل يصيح بي: “انشب!”
لاحظت أن نقيباً وبعض الشرطة يقفون في ممرٍّ كأنهم كانوا ينتظرون وصولنا، ونحن نسير في حدود العشرين -رجالاً ونساء بعبايات- ولا شك أن ملامحي كانت مخالفة لذلك الحشد، فبادرت على الفور وقلت لنقيب الشرطة: يا سيادة النقيب أنا صحفي وأعمل في مجلتي والمزمار ولا علاقة لي بالحادث، لقد جاؤوا بي بالغلط!
بدا على النقيب أنه لم يستوعب غرابة كلامي، لأنني مع متعاركين وإلى جانبي الشرطي ذو الكرش، فاستعاد مني الكلام، ثم سأل الشرطي:
“هذا ليش جايبا وياهم؟” فأجابه: “سيدي كان وياهم” فسأل الضابط حشد المعركة مشيراً إلي:
“هذا وياكم بالعركة؟” فانتبهوا جميعاً ونظروا إلي باستغراب قائلين: “لا سيدي ما نعرفا مو ويانا”
قلت: “يا سيادة النقيب مراراً حاولت أن أقول للشرطي أنني لا علاقة لي بالحادث وهو لا يتركني أكمل، ويصيح بي انشب!”
ضحك النقيب اللطيف، وربت على كتفي بودٍّ، لاسيما بعد أن عرفني جيداً، واعتذر، وإذا بي في تلك اللحظات أرى علي المندلاوي وأحمد رستم الخطاط ومعهما أحد مسؤولي دار الجماهير ملهوفين، ليتداركوا أية إهانة أو تعقيدات قد تحصل لي، لكنني كنت أبتسم إلى جانب النقيب الذي طمأنهم بأن هناك سوء فهم وسوء تصرف فقط، وأعاد الاعتذار، فخرجت من المركز وعلي يقول لي ساخراً:
“ماتجوز من سوالفك؟! والله كان لازم نخليهم يذبوك فد يومين تلاثة حتى تبطل فضولك.”