وهم الحداثة
كاظم حسوني/
القصة الناجحة ،كما أعتقد، هي التي تشيع فينا القلق وتؤثر فينا، وتستطيع بإيحائها إيهامنا بحقيقة ما نقرأ إلى الحد الذي نقتنع ونصدق تصوّرنا أن اللامعقول معقول. ومن شأنها أيضاً إيقاظ حواسّنا على حقائق ربما كانت مهملة أو غائبة عنا. قصة تستجلي ما حدث ببراعة الفن، يمكن أن تروي عذاباتنا وهمومنا، وتحاكي أحلامنا أو تستفزنا، ويمكن لها أن تعيد نقاء الأشياء الذي افتقدناه، وترمّم أرواحنا بحلم المستقبل. هذه النصوص القليلة فائقة الجودة توقف بعض كتّابها عن إنتاجها بدعوى ضرورة الخروج على مألوف السرد باستثمار تقنيّات وأساليب حداثوية، فاختطّوا مسارات مغايرة حسب رؤيتهم، تمثلت بالبحث في تاريخ المدن القديمة المندرسة، ومحاولة العثور عن الميثولوجيا والموروث الأسطوري لها لاستخدامه في متن نصوصهم، وكأنهم وقعوا على كنوز يندر العثور عليها واكتشافها إلا من قِبلهم، منبهرين بها إلى حد مجافاة الواقع، والترفّع عنه، لأنه أجدب في نظرهم، متجاهلين حقيقة أن ليس ثمة سوى الواقع من يمنح الكاتب رؤى متجددة، لاسيما واقعنا الذي فاقت أحداثه الخيال والفنتازيا، إلا أنهم مضوا باتجاه معاكس فاكتفوا بنبش الماضي وإعادة الكتابة عن حروب وآلهة ومدن قديمة في حوض وادي الرافدين، أشبعتها كتب التاريخ دراسة وبحثاً. وبرغم ذلك نقول لا بأس من استلهام التاريخ، وما يحمل من رموز وإشارات وإيحاءات تشير وتلمّح إلى ما يحدث في الوقت الحاضر، لكن البأس في خروجهم بسرديّات لا تشبه القص، بل هي نصوص مملّة، ثقيلة الدم هي أقرب للمقالات. ومحاضرات التاريخ، لايجد فيها المتلقي سوى كتابات خرقت كل خصائص الجنس القصصي، لا على نحو خلّاق كما ينبغي، لإغناء الفن القصصي والحرث في أرض جديدة، إنما هي تجارب لم تستطع استثارة اهتمام القارئ، نصوص مزحومة ومثقلة بالثقافة المعلوماتية بشأن الحضارات وبعض أحداث الأزمان الغابرة، متناسين أن القصة ضرب أدبي له خصائصه وأبنيته الخاصة، لايحتمل ركام غبار الحضارات، كون القصة لحظة مكثّفة ومرهفة، تلمح وتشير من دون أن تثقل متونها التواريخ والجغرافية، وإشكالات الثقافة بدعوى التجديد والخروج عن مألوف الكتابة السردية..