السماء كانت تنقصها نجمة.. فكانت سماء الأمير
آية منصور /
كانت هيئة التحرير قد قررت أن تكون (سماء الأمير) نجمة (بصمة) في العدد ٣٧٥ الذي سيكون أول عدد يصدر مع السنة الجديدة احتفالاً بها وبمنجزها، رغم إعاقتها المعقدة والشديدة، كأيقونة طاقة ايجابية في مواجهة كورونا من جهة، واليأس من جهة اخرى.. لكن كانت للقدر كلمته، فاختارها سبحانه لترحل في ١٦ من كانون الأول لتصبح مادة (بصمة) لهذا العدد احتفاء بها..
سماء المعجزة
ما زلت أتذكر القشعريرة التي دبت في روحي وأنا أستمع لكلمات الكاتبة والصحفية أسماء محمد مصطفى، حين كانت نجمة (بصمة) كأم متميزة قبل نحو سنتين وهي تحدثني عن صغيرتها سماء، التي ولدت عام 2003 بحالة مرضيّة مركبة لاعلاج لها، حتى أن الطبيب كان صريحاً بطلبه مواساة أهلها مبكراً، لاحتمالية مفارقتها الحياة قبل بلوغها الأربعين يوماً، لتفاجئهم سماء، تلك المعجزة، بتمسكها القوي بالحياة، وتمنح والديها هبة الأبوة ورحلة الأمل.
صناعة الحب بالإصرار
نقلت السيدة أسماء أسلوبها في التعامل مع الواقع إلى سماء، وإلى الأمهات اللواتي لديهن أطفال مرضى أو من ذوي الاحتياجات الخاصة، وواجهت ظروفا عصيبة لزجِّ وحيدتها في هذا العالم الصعب، فكانت بداية معاناتها في عدم موافقة المدرسة الخاصة بذوي الهمم، وتأكيد الإدارة بعد اطلاعها على حالة سماء، أنها لن تكون قادرة على البقاء ست ساعات دراسية يومياً، إلى جانب مشكلات صحية، لتتولى والدتها كفاحها وتعليمها في البيت، ولكن على فترات متقطعة بسبب تعرض سماء شهرياً لنوبات مرض تجعلها تلازم الفراش.
الأمر المدهش أن سماء الجميلة، المتقدة بالحب، بادلت والدتها هذا العطاء، واستقبلت تعليم أمها لها داخل المنزل بسرعة استيعاب وقدرة على التعلم الكبير. قامت أسماء بتحفيظها حروف اللغة العربية وكيفية التهجي، كما أنها كانت ترتجل الكلام باللغة الفصحى بطلاقة متأثرة بأفلام الكارتون. والشيء الجميل أن سماء علّمت نفسها الرسم بالحاسوب من تلقاء نفسها منذ نعومة أظفارها. كما كان خط سماء جميلاً وهذا ما شجع والدتها على البحث عن سبل لتدريبها على فنون الخط العربي.
الحياة لوحة رسم
سماء التي تعلمت من أمها ألا تستسلم وألا يكون مرضها العضوي حجر عثرة في طريقها، أبهرت والديها بتحويل ألمها وأوجاعها إلى نجاح مستمر من الإرادة والاصرار، وتعاملت مع المرض على أنه أمر واقع لا يجدي معه الغرق في الحزن واليأس، باستمرارها بالرسم والخط، وحتى تصميم الأزياء.
تعاونت سماء مع والدتها في تأسيس شبكة (الحياة لوحة رسم) الخاصة بدعم التفكير الإيجابي والطاقات والمواهب، وذلك بتعليم الرسم والكتابة لأشخاص آخرين، بعد أن قدمت سماء معرضها الشخصي الأول عام 2016 حتى بلغ عدد معارضها أربعة معارض خلال سنتين. كانت لوحاتها مفعمة بالحياة، وأقامت كذلك معارض عدة بمشاركة اطفال من ذوي الهمم وآخرين سالمين ومعرضاً بعد آخر كان العدد يكبر وتأتي المشاركات من أنحاء العراق كافة.
أقامت الشبكة، إلى جانب معارض الرسم، مجموعة ورش مجانية تحت عنوان رئيس كان اسمه (شجرة الحياة والرسم بالكلمات)، تدور مضامين هذه الورش حول ربط التفكير والإبداع بالأخلاق والإرادة، وكيفية اعادة بناء الوطن بالأخلاق والفن، وتمكنت الراحلة، المستمرة بيننا، سماء الأمير، من تقديم إحدى هذه الورش وكانت بعنوان (الحب أفضل دواء للجسد والروح)، التي كانت بمثابة إطلاق دعوة للمحبة والتعايش والتسامح، وقد تم تشكيل فريق عمل للشبكة تحت اسم (سماء أسماء) ويضم أيضاً الفنانين (شبيب المدحتي) و(ابتسام الخفاجي) اللذين يعنيان بموضوع تدريب المواهب على الرسم في مرسم مكتبة الأجيال التابعة إلى دار الكتب والوثائق الوطنية.
أمنيات كبيرة لفتاة صغيرة
سماء في تقرير سابق عنها على (صباح العراقية)، أجابت مراسل البرنامج الذي سألها عن أمنيتها في الحياة: “السلام والأمان في العراق”، كانت ترى أن أمنيتها الكبيرة أن تكون صبية تمشي وتركض مثل غيرها من البنات وكان شعارها التي تعمل لأجله (أن الحب دواء شاف للأوضاع في العراق).
سماء – النجمة
لم نشأ أن ننتهك حزن أسماء، لذلك نكتفي بمنشور لها في صفحتها على الفيسبوك قالت فيه: الحقيقة أن طبيب الجملة العصبية الذي كنا نراجعه من أجل سماء بعد ولادتها في 2003 أخبرني بأن عمرها لن يصل إلى العشرين سنة، دفنتُ كلامه في أعماق قلبي، وتعاملت مع سماء بعيداً عن هذه الحقيقة المرة، منحتها كل ما تريد مما هو بإمكاني وكنت أتوجع سراً لما هو خارج إمكانيتي لأنه بيد خالقها، أسعدتها وعلمتها الكثير بأسلوب مرن ولم أثقل عليها، لأن حياة قصيرة يجب ألا نضغط فيها على صاحبها، لهذا كانت مساحة للتسلية والمرح في حياة سماء أكثر من أي شيء آخر، وإذا كان الله سيمد في عمرها فيمكن تعويض اي شيء فاتها. أما والدها فكان حنوناً جداً معها وقد أوكل لي تعليمها وتربيتها. حققت سماء حضوراً متميزاً عبر معارضها وحملاتها ونالت جوائز دولية كثيرة، آخرها كانت من الهند قبل وفاتها بيوم، وكتبت عنها صحف ومواقع محلية وعربية ودولية، وأسسنا معاً شبكة إلكترونية تطوعية بعنوان (الحياة لوحة رسم) لدعم التفكير الإيجابي والطاقات والمعارض، دعمنا من خلالها عشرات الأطفال والشباب طوعياً وبلا مقابل، وأولينا ذوي الاحتياجات الخاصة والظروف الصعبة اهتماماً خاصاً. وأضافت: كانت راقية نقية حكيمة مثقفة ذكية محبة للآخرين رافضة للظلم لافتة للنظر، ذات كاريزما، سخية، تحب التبرع للمتعففين والأيتام، إنسانية في أفكارها ومشاعرها، محبة جداً للعراق، ترفض مغادرته. اتفقنا على مخططات لما بعد كورونا ووعدتها بتنفيذ كل ما تريده مني لتكون أسعد، كما كانت جزءاً من برنامج رسم سياسات تخص ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة والخاص بأحد الخبراء الأجانب المتعاملين مع اليونسكو لرفعها الى الحكومات، بعثنا المجموعة الأولى من المعلومات، وكان من المفترض إرسال المجموعة الثانية من الإجابات خلال هذه الأيام، لكن القدر لم يمهل سماء. تخيلوا.. أبلغ الخبير سماء عبر البريد الإلكتروني أنه سيفاتح اليونسكو لتضمين مؤتمراتهم ونداوتهم عبر الإنترنت ترجمة من اللغة العربية إلى الإنكليزية وبالعكس حتى تتمكن سماء من حضورها، بعد أن وصلتها دعوة لحضور مؤتمر دولي، لكن حاجز اللغة وقف حائلاً دون حضورها. كتب لها الخبير في رسالته: “سأفاتح اليونسكو بموضوع الترجمة من اجلك فقط.” كانت سماء ستسعد لو أكملت هذا المشوار من أجل خدمة شريحة أصحاب الهمم ذوي الاحتياجات الخاصة، لكنها رحلت سريعاً بعد أن أنهكتها أمراضها العضوية وأوجاع الجسد المستمرة التي قاومتها سماء بمطاولة عجيبة حتى قررت إنهاء المعاناة. كان جسدها عبئاً عليها، لكن روحها كانت حرة نقية باسلة، لهذا لم تمت سماء، وكما قال القاص الكبير محمد خضير: “ما كنا نتمنى أن نختتم عام الفواجع بهذا الرحيل.. لكن السماء كانت تنقصها نجمة.. فللأبوين عزاء جميل.” وكان والدها القاص والصحفي عبد الأمير المجر قد نعاها يوم وفاتها في منشور قال فيه “ابنتي الوحيدة سماء، رحلت هذا اليوم، وتركتني في بحر من حزن.. سماء التي ولدت بلا عمود فقري يمكنّها من النهوض، قاومت شللها بفن الرسم وحصدت جوائز عدة، ومن دول عدة، آخرها يوم أمس، اي قبل يوم واحد من رحيلها، من الهند، وداعاً وإلى رياض الجنان يا حبيبة بابا.”
باربي تستجيب
كانت سماء قد أرسلت مقترحاً لشركة مارتل التي تنتج لعبة (باربي) الشهيرة لإنتاج نسخة من باربي تكون فيها مريضة وعلى كرسى متحرك ولو لمرة واحدة، شكرتها إدارة الشركة ووعدتها بتنفيذ طلبها يوماً وستهدي النسخة إليها.
وأكد نقاد عديدون أن النجمة سماء كانت ترسم بأسلوب ما بعد الحداثة بعمر 14 سنة، لتعد أصغر فنانة عربية، وتمكنت أيضا من إضافة اسمها كمدوِّنة في المنصة العالمية (أصوات الشباب) التابعة لليونسيف، لترسل من خلالها صوتها وأصوات الشباب العراقي باللغتين العربية والإنكليزية.
إضافة إلى هذا، واصلت الراحلة تألقها، وذلك بعد أن نشرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) مقالاً عن سماء وتجربتها ومعرضها (معاً نواجه كورونا) في موقعها الرسمي وصفحاتها الرسمية، كما خصصت المنصة العالمية (قصة من أجل التنمية) صفحة لقصة سماء وسيرتها وإنجازاتها. المنصة باللغتين الإنكليزية والفرنسية وتابعة لليونسكو بالتعاون مع مؤسسة (نيبون) اليابانية. كما نشرت مجلة (Thalassae Matters) البريطانية موضوعاً عن سماء ومشاركتها في الحملة الدولية للتبرع بالدم التي نظمتها جمعية الثلاسيميا في المملكة المتحدة / 2020، و فازت بجائزة (الأيادي الملهمة Inspiring Hands) في مسابقة نظمتها المنصة الفنية الدولية المخصصة للشباب والأطفال (عمل الأبطال Champs Work) التي تدار من الهند، عن لوحة بعنوان (بانتظار خروج الفراشة من الشرنقة / آب 2020.)
السيرة المشرفة لم تنته مع المناضلة سماء الأمير، التي تمكنت من الوصول إلى ضفة الأمل بسلسلة طويلة من الإنجازات والأحلام، حتى أنها، وقبل وفاتها بيوم واحد فقط، استطاعت نيل جائزة (مهرجان الأضواء) المقام في الهند، عن طريق منصة (الهندي الدولية.TinyDistrict).
#سماء_الأمير
تحت هذا الهاشتاغ، نشر المئات على الفيسبوك عن رحيل سماء الأمير، واتفق الجميع على أن غيابها الجسدي لا يلغي استمرارها بيننا، فهي تركت أثراً ومنجزات لا يتمكن الشخص السليم من تحقيقها، وعلّمت الجميع أن الحلم في الأساس إرادة، وأن الحياة لا تقاس بالسنوات التي نعيشها، إنما بما نتركه من أثر وبصمة..
الامتنان الكبير لهذا الحلم
شكراً لسماء التي ألهمتنا كيف نحلم ونحب ونمنح، شكراً للسيدة أسماء التي كانت وستبقى مثالاً مذهلاً للأم المعطاء التي صنعت لسماء حياة غامرة بالطفولة الممتدة حتى الأبد، وأقول لسماء كتابة ما لم يسعفني الوقت للتحدث إليها مرة أخرى إن منشوراتها على الفيسبوك كانت بالنسبة لي بمثابة حلم أحتاج للهروب إليه للشعور بالسكينة والسلام، أنا أشعر بامتنان ضخم لسماء ووالدتها على كل ما قدماه لنا، على الحياة التي تمكنتا من صنعها لتصبح تحفيزاً لنا، وممتنة لسماء الجميلة، النجمة المضيئة فوق سماء أرواحنا، على الطاقة والحب والعطاء.