سلاسل الإمداد المهاجرة.. فرصة العراق الذهبية لاقتناصها وتوطينها داخلياً

218

زياد الهاشمي

شهد الاقتصاد العالمي الكثير من المتغيرات خلال السنوات الخمس الأخيرة، ولاسيما أثناء وبعد فترة الجائحة التي ضربت العالم قبل أربع سنوات، التي كان من مظاهرها تعطل وتعثر سلاسل الإمداد العالمية نتيجة الارتفاع المفاجئ للطلب الأوربي والأميركي على السلع والمنتجات من آسيا والصين.

بعد خروج المجتمعات من فترات الإغلاق، الذي أدى إلى ازدحام السفن في الموانئ، ونقص في الحاويات الفارغة لنقل البضائع، وقبل ذلك التعقيدات لدى المنتجين في الحصول على كميات كافية من المواد الخام المطلوبة لغرض الإنتاج.
ارتفاع التضخم
هذا التعثر العالمي في سلاسل التصنيع والنقل والإمداد بشكل عام، تسبب بشحة واضحة في السلع والمنتجات داخل الأسواق الغربية وارتفاع أسعارها، فضلاً عن ارتفاع أسعار الشحن البحري إلى عشرة أضعاف في المتوسط للحاوية النمطية الواحدة المنقولة من الصين نحو أوربا، ما أسهم بدخول الاقتصادات الغربية تدريجياً في مرحلة ارتفاع التضخم.
هذه الاختلالات الشديدة التي حصلت على المستوى العالمي، نبهت إلى مسألة كانت مسكوتاً عنها لعقود، المتعلقة بمسافات سلاسل الإمداد الطويلة العابرة للقارات، الممتدة من أقصى آسيا شرقاً إلى أقصى أوربا والساحل الشرقي للولايات المتحدة غرباً، فقد أظهرت أزمة الوباء أن طول سلاسل الإمداد وبُعد المسافات بين مراكز التصنيع الآسيوية ومراكز الاستهلاك الغربية، يعدان سببين جوهريين من أسباب تأخر التجهيز وارتفاع أسعار النقل وتعريض الاقتصادات لضغوطات تضخمية.
من ناحية أخرى، تسبب التنافس الجيواقتصادي العالمي بين الولايات المتحدة والصين بفرض الولايات المتحدة ضرائب متزايدة على المنتجات الصينية، ولاسيما المنتجات التكنولوجية والسيارات الكهربائية الداخلة إلى الأسواق الأميركية، بحجة سياسة الإغراق التي تنتهجها الصين لتوسيع حصصها السوقية عالمياً (حسب وجهة النظر الأميركية)، ما تسبب في زيادة أسعار تلك المنتجات وانخفاض تنافسيتها داخل أسواق الولايات المتحدة.
تنقلات سلاسل الإمداد
هذه العوامل المتعلقة بطول سلاسل الإمداد والتنافس الحاد بين الصين والولايات، يضاف لها ارتفاع كلف الإنتاج داخل الصين، دفعت الكثير من الشركات والمصانع ومراكز الإنتاج وملاك العلامات التجارية إلى تبني ستراتيجية جديدة ترتكز على تقصير سلاسل الإمداد الطويلة، وتحويل مراكز التصنيع من الصين والشرق الأقصى إلى جغرافيا أكثر قرباً من مراكز الاستهلاك الغربية، ذات كلف إنتاجية أكثر تنافسية من الصين، إلى جانب أن الملاحقة الأميركية لبعض المنتجات الصينية بعصا الضرائب، دفعت المصنعين الصينيين المتأثرين بتلك الضرائب، لتحويل مراكزهم التصنيعية إلى خارج الصين، والتصدير مرة أخرى إلى السوق الأميركي دون التعرض لضرائب إضافية. ومن أهم الأمثلة على ذلك هو نقل الصين لبعض مصانع سياراتها الكهربائية إلى المكسيك والإنتاج والتصدير من هناك إلى السوق الأميركي لتجنب نظام ضرائبه.
هذه التحولات في القطاع التصنيعي ومراكز الإنتاج، تسببت بما يسمى بهجرة سلاسل الإمداد، أو تنقلات سلاسل الإمداد (Supply Chain Relocation) التي مكنت دولاً كثيرة من اقتناص بعض سلاسل الإمداد المهاجرة من الصين وتوطينها محلياً، مثلما فعلت بنغلادش من خلال توطين العديد من مراكز التصنيع الصينية في قطاع الملابس، ومثلها فعلت تركيا ومصر ودول شرق أوربا، وحتى تونس والأردن والمغرب والإمارات والسعودية، والهدف هو إنشاء صناعات تقوم بتصنيع منتجات أقرب جغرافياً وبكلفة أقل وبنفس الجودة المطلوبة.
فرصة العراق الذهبية
أطلق العراق مؤخراً خطته التنموية الوطنية 2024-2028 التي تركز على جوانب التنويع الاقتصادي المتمثل بتنمية قطاعات الصناعة والخدمات وتقليل الإعتماد على عوائد النفط. هذه الخطة التي ترتكز في برنامجها التنفيذي على استثمار علاقات العراق الدولية في توسيع نطاق التنمية داخل العراق وتحقيق المستهدفات الاقتصادية من خلال إنشاء صناعات وطنية تغطي قطاعات اقتصادية متنوعة. وقد جاء إطلاق هذه الخطة التنموية في توقيت مناسب جداً، بالتزامن مع حدوث هذه الانتقالات الواسعة والاستثنائية في سلاسل الإمداد ومراكز التصنيع الآسيوية، التي يمكن أن تكون فرصة ذهبية للعراق لاستثمار علاقاته الستراتيجية مع الصين والوصول إلى تفاهمات مع مصنعيها، والدخول بشراكات في سلاسل الإمداد تشمل نقل بعض من مراكزها التصنيعية (القابلة للخروج والهجرة) وتوطينها داخل العراق والبدء في إنتاج منتجات وسلع تستهدف مراكز الاستهلاك الأوربية، مستفيداً من القرب الجغرافي الذي يمكن أن يعطي العراق ميزة تنافسية كبيرة مقارنة ببقية المنتجات المقبلة من مناشئ بعيدة، فيما لو تزامنت عمليات الإنتاج هذه مع توفر خدمات ومسارات النقل البري الانسيابي المرتبط بأوربا عبر طريق التنمية. حينها سيتشكل لدينا نموذج متكامل بشكل عمودي (Vertical integration) يمزج الصناعة مع خدمات القيمة المضافة والخدمات اللوجستية والنقل والإمداد. حينها يمكننا القول بثقة إن العراق قد بدأ فعلياً بالدخول، بشكل صحيح وفعال، في عالم النقل الدولي وسلاسل الإمداد العالمية، والانتقال من نموذج الدولة العالية الاستهلاك العالية الريعية، إلى دولة منتجة ومصدرة وناقلة لمنتجات متنوعة لها حصص سوقية متزايدة حول العالم، تتخلص بشكل تدريجي من الاعتماد العالي على ريعية النفط.
ختاماً نقول: لدينا الآن فرصة ذهبية قد لا تتكرر، دعونا لا نضيعها!