صرتُ لاحماً

270

بيان الصفدي /

منذ طفولتي لم أستسغ اللحم، وظلَّ يثير قرفي، وكم عندي لهذا الأمر من ذكريات! وكم تحمَّلت في سبيله من لوم وتقريع من أسرتي! فأنا لا أمتنع عن أكل اللحم فقط، بل عن كلِّ طبخة يدخل فيها اللحم وإن كان قليلاً. ولا أعرف لذلك سبباً منطقياً، وهذا الأمر كان مقلقاً ومربكاً لأسرتي، ولأمي خاصة.
لهذا كانت أمي تشفق علي، وتخصني بطعام ليس فيه لحم، وأحياناً تضيق ذرعاً بي، فتتركني آكل ما تيسَّر من نواشف المنزل.
ظلت الحال تحت السيطرة حتى وصلت بغداد نهاية عام 1976، وإذا بي أصطدم بشعب يدخل اللحم في جميع وجباته بوفرة، فأصابني الذعر من ذلك، فما الذي أفعله مع الناس الذين يتناولون (الباجة) فجراً، والتشريب والتكة والكباب والمعلاق صباحاً، وهكذا أُسقِط في يدي! ندخل مطعماً، فنتناول وجبة الغداء من الرز والبامية، وإذا بقطعة كبيرة من اللحم دوماً تكون مكوَّمة فوق الرز، فأعطيها بقرف إلى زميلي الذي إلى جانبي فيفرح بها، ويبدأ بالسخرية مني، لكن المشكلة لا تنتهي معي تماماً.
كيف استطعت التغلب على هذه المشكلة مؤقتاً؟ كان ينقذني على الدوام مطعم صغير ونظيف صاحبه كردي في منعطف ساحة الرصافي باتجاه الحيدرخانة، إذ يقدم صحناً لذيذاً من (الكيمر بالعسل)، وإذا تعذر ذلك كنت أكتفي بلفَّة فلافل أو صحن (جظ مظ) في مطعم صغير صاحبه فلسطيني عند جسر الصرَّافية، وإذا صعب ذلك عليَّ فقطعة زبدة عراقية تباع في دكاكين المدينة كلها.
لكن زملائي باتوا يضيقون من ذلك، وأخذوا يلحُّون عليَّ لأن أغيِّر هذا المزاج، وراحوا يتدارسون كيفية الحلول لهذه المعضلة الغريبة!
لأننا ندخل المطاعم الشعبية القريبة من سكننا فإذا بالوجبة المتوفرة دائماً هي (تكة وكباب ومعلاق) وإذا أردنا تناول الطعام من عربات منتشرة في شوارع عديدة، فيبقى الطعام نفسه، وهكذا.
أحد زملائي، ولأنني أحب الطماطم والبصل والمعدنوس، اقترح عليَّ أن أجرب كباباً أكثره من تلك المواد كبداية، مع كمية قليلة جداً من اللحم، وهكذا دخلنا مطعماً، وطلب زميلي من صاحبه كباباً خاصاً لي، معظمه بصل وطماطم ومعدنوس، فاستغرب العامل من ذلك، فهذه الخلطة لا تصلح لتماسك الكباب على شيش الشيِّ، فاقترحت عليه أن يُكثِر من الطحين على هذه الخلطة ليتماسك، فاستجاب الرجل مستغرباً وممتعضاً، قائلاً بانزعاج:
“أكو واحد ما يحب اللحم!”
أتى العامل بماعون الكباب لي، وهو خلطة طريفة لا يجمعها بالكباب جامع وثيق، بل كانت غير متماسكة كما يجب، فما إن أمسك القطعة حتى تتفتَّت في اللقمة! ورحت آكل بحذر ونفور ما سميناه كباباً، المهم أن التجربة مرَّت بسلام!
ثم كررت الأمر مراراً، وفي كل مرة تقريباً كانت كمية اللحم تزيد شيئاً فشيئاً، ولم تمضِ عدَّة أشهر إلَّا وقد صرت أستسيغ الكباب فقط، وحاول زملائي أن يزيدوا الجرعة لي بأن أتناول (التكَّة)، ففشلوا في مسعاهم، فما بالكم بالمعلاق!! وأذكر أن حتى الشوربة كانت لا تخلو من قطع لحم مفرومة!
توالت الأيام والشهور، فصرت آكل الكباب والتكة على مضض بلا شهية، وأكتفي بالسمك كوجبة مفضلة دوماً، أما المعلاق فظلت علاقتي مقطوعة به حتى الآن، والغريب أيضاً أنني إلى الآن لا آكل طعاماً يدخل اللحم في مرقه، وأكتفي فقط بالمشوي أو المقلي لا المطبوخ باللحم. وذات يوم مازحت مستخدماً كان يعمل في قسمنا الداخلي، حيث راح يصف لي بشغف أكلة الباجة فجراً، فقلت له:
“أبو جاسب يا هو الأطيب عندك المرا لو الباجة؟!”
فأجاب على الفور:
يا مرا عمِّي؟ الباجة عيني الباجة! أكو شي بالدنيا أطيب من الباجة؟!
ربما لولا العراق لبقيت نباتياً حتى الآن.