مواكب الأطفال صغيرة بإمكانياتها.. كبيرة بمعانيها

551

مجلة الشبكة/
حسينيون بعمر الزهور لا يملكون مالاً وفيراً ولا عدة عاشورائية مكلفة وانما ينصبون مواكبهم البسيطة بعطائها الفطري ببركة المصروف اليومي المُدخر، ويقاسمون ذويهم نفس الهمة والحماس ويتنافسون على خدمة الزائرين ليثبتوا للعالم بأسره وبشكل لا أرادي التصاقهم الفطري بسمو الملحمة وجانبها السلوكي الفذّ.
صندوق المصروف اليومي
زهراء.. طفلة في الثامنة من عمرها، وفرت مبالغ من مصروفها اليومي الذي تحصل عليه من والديها (كيومية مدرسية) وما إن حل شهر محرم الحرام حتى طلبت من والدتها أن تقيم موكباً في باب الدار مدفوع التكاليف من مصروفها المدخر.
تقول والدتها: “زهراء بطبيعتها لا تحب ان تعطي ما تملك لأحد لكنها فاجأتني حين طلبت أن تشتري من مالها طعاماً وماءً وأن تؤسس موكباً صغيراً، وافقتها على فكرتها شرط أن يكون موكبها الصغير عند باب دارنا تحديداً.. فوافقت بغبطة الملهوف.”
ارتدت زهراء رداءها الأسود ووضعت حجاباً أسود على رأسها، وناولتها والدتها مفرشاً ومنضدة وضعتها في باب الدار ورتبت قطع الكعك وأقداح الماء في صينية. وعلى الرغم من أن البيت يقع في شارع فرعي إلا أن زهراء باتت توزع على المارة وعلى أطفال الجيران الذين حضروا ليأكلوا ويروا ماذا تقدم.

موكبه تحول لمزار
نموذج موكب زهراء ليس نموذجا طارئا تجاه وعي ثابت غير طارئ، ففي مناطق اخرى اسس الاطفال مواكب صغيرة تقدم اشياء بسيطة انتشرت واشتهرت في مواقع التواصل الاجتماعي وتفاعل معها الصغار والكبار، وربما اشهرها موكب الطفل محمد رضا في النجف /حي الفرات، الذي استطاع رغم عمره الصغير ان يغير مسير مواكب بكاملها باتجاه بيته البعيد عن سير المشاة الزائرين ومواكبهم. القصة ترويها والدته التي قالت :”لقد اصر ولدي على تأسيس موكب صغير أمام باب الدار، ورغم ابلاغي له أن دارنا بعيد عن سير ومرور الزائرين ومواكبهم الحسينية، الا انه أصر باقيا في موكبه الصغير والبسيط حتى منتصف الليل منتظرا الأمل بمرور زائر واحد على الأقل ليشفي غليل شغفه بخدمة (زوار الحسين).” تضيف والدته: “فما كان مني إلا أن انشر قصته على مواقع التواصل الاجتماعي لأني احسست بحزنه الشديد، وما إن انتشرت قصته عبر وسائل التواصل الاجتماعي حتى توافد الناس عليه في اليوم الثاني، وفي اليوم الثالث توافد الزائرون على موكبه بل أكثر من ذلك غيرت مواكب بكاملها طريق مرورها باتجاه موكب ولدي الذي ضيفهم بروح (المعزب المدرك) من بركات (زاد أبي علي).”

حوافز وكرم مجتمعي
بركات الحسين (ع) هي عبرة ودرس في الاخلاق لذلك يطرح السؤال المهم نفسه هنا: ماذا نستشف من قصتي زهراء ومحمد رضا!
الجواب، نستشف يقينا ان النية الخالصة وبراءة الأطفال وفطرتهم وحبهم للخير جعلتهم يؤثرون في محيطهم بطريقة وتأثير الكبار. وقصتهما ليستا حالتين نادرتين في مجتمع عرف بالكرم، ولاسيما تجاه ضيوفه، إذ ذكرت مؤسسة (CAF) الخيرية أن العراق من أكرم الشعوب تجاه ضيوفه، وهو الأمر الذي لم يبتعد عن مجموعة من الاطفال اتخذوا مكانا قريبا من شاطئ دجلة وآخرين في ازقة يقدمون ما تيسر لهم من طعام وشراب للمارة.
حسن.. طفل اسس موكبا صغيرا امام دارهم البسيط، تقول ام حسن: “طلب ابني ان يؤسس موكبا فساعدته في ذلك”. وهنا يقاطعها حسن متحمساً: “اريد ان اصبح صاحب موكب واخدم الحسين ع” وزائريه.
كذلك كان حسوني وعبوسي وبنين الذين اسسوا مواكب صغيرة الإمكانيات كبيرة المعاني في منطقة الكريعات بشارع يسمونه (فرع ابو زكريا) يقولون: “اسسنا موكبا لأننا نحب الخدمة ونريد ان نطعم الناس والزائرين بثواب الحسين”.
أما موكب (برهان ابن احمد حمزة) .. هكذا سموا موكبهم الذي يقدم الماء والكعك والشاي للمارة . يقول برهان :”احب ان اقيم موكبا للحسين (ع) وتعلمت من الكبار كيف يقدمون الخدمة واحببت ان اكون مثلهم”.
عباس ذو الثلاث سنوات اشترك في موكب يمده من مصروفه الخاص، وعندما سألناه لماذا تفعل ذلك؟ اجاب :”آني اسويه للإمام الحسين ع”. إجابة فطرية ربما تأثرت ببيئة يكثر فيها الكرم والإيثار.
فطرة وتنشئة سليمة
وعن ذلك الايثار الحسيني المنبثق بالطفولة، تقول الدكتورة ايمان حسن الجنابي، المتخصصة بالإرشاد النفسي والتوجيه التربوي في كلية التربية / ابن رشد: ان سلوكيات الطفل تتبع البيئة فيكتسب مايمكن اكتسابه منها ومشاركة الاطفال في المواكب الحسينية وخدمة الناس تنمي لديهم روح الكرم والايثار والعطاء وتسهم في بناء مجتمع صحيح السلوك، ان الخدمة في المواكب تزيد من روح الانتماء للمجتمع والالتزام بالتعاليم السامية وتجعلهم يبنون شخصيتهم وكيانهم من خلالها، لذلك نجدهم فرحين بما يقدمونه من كرم يتناسب واعمارهم بثقة حين يقيمون موكبا بأنفسهم أو برعاية والديهم أو أولياء أمورهم ما يسهم بتركيز حالة الالتزام الاجتماعي والتربوي تجاه أولياء امورهم، مع تنشئة سليمة مرتكزة على الاعتماد على النفس في تقليد الجانب الإيجابي للكبار على مستوى الالتزام الأخلاقي واستيعاب العبر، أو حتى فيما يتعلق بالتدبير المالي من مصروفهم البسيط وهمة الكرم العالية، ما يسهم بلا أدنى شك في بناء شخصيتهم المستقبلية وتحصينها تجاه توجهات وتيارات منحرفة بدأت تجد ضالتها في مجتمعات مختلفة من خلال دعم معلن غير خفي، لاسيما ان هذه الشريحة من العمر مستهدفة بعناية شيطانية ، وما تبني شركة عملاقة برسوم الكارتون والأطفال لأفكار منحرفة عنا ببعيد، ومن هنا تأتي اهمية استيعاب المعاني والعبر التي ثار من أجلها الحسين (ع) وتصحيح مسار الدين والعقيدة التي كادت أن تطمس وتضيع لولا ثورته التصحيحية والإصلاحية.