دماء عراقية على أرض فلسطين وحدن بيبقـوا مثل زهر البيلسـان…
بغداد ــ عادل مكي/
في نهاية السبعينيات، وتحديدا في مدينة الصدر (الثورة سابقا)، كانت المدينة تعج بالأفكار القومية واليسارية والشيوعية والدينية. وقد لفت انتباهي وأنا طفل صغير أنه في أحد تلك البيوت البسيطة في قطاع ( 74 ) كانت هناك امرأة فلسطينية متزوجة من رجل عراقي تصفها النسوة بأنها أجمل امرأة في ذلك القطاع، وأنها جاءت الى العراق مع زوجها الذي أصيب في إحدى معارك المقاومة الفلسطينية، إذ إنه كان (فدائياً) شارك في معظم عمليات المقاومة.
هذا الموضوع شدني إليه وبدأت أبحث عن تفاصيله، فقيل لي إنهما تزوجا هناك، وقد أنجبت منه ثلاثة أطفال بعد قصة حب جمعتهما، وقد تعرف عليها كونها ابنة أحد قادة المقاومة الفلسطينية، لأنها رأت فيه الشجاعة والبسالة والروح العراقية المترعة بالفداء والطيبة والوفاء، ماشجعها على الاقتران به، اطمئنان ماخاب فيه الظن، حتى أنها جاءت معه الى العراق لتعيش معه بعد إصابته التي جعلته شبه مقعد، وبقيت تقاسمه الحياة بحلوها ومرها.
طلال حيدر
وحين كبرتُ قليلاً أدركت أن هذا الرجل، مثله المئات من العراقيين ممن شاركوا في عمليات المقاومة الفلسطينية، وهو الأمر الذي جعلني أتوسع في البحث عن حيثيات هذا الموضوع وتفاصيله، ولاسيما تلك المتعلقة بجانبها الموسيقي، إذ وجدت أن مشاركة العراقيين في تبني قضية العرب المركزية والمشاركة فيها كان أساس ديمومتها بطريقة فرضت نفسها في تاريخ الغناء والموسيقى العربية، ضمن روائع تاريخها متمثلة بالأغنية الخالدة التي غنتها المطربة الكبيرة (فيروز) التي غنت لثلاثة شبان فدائيين كان أحدهم عراقياً، نفذوا عملية فدائية في فلسطين، نقلت إلينا على لسان شاعرها (طلال حيدر) تفاصيل تلك الأغنية والواقعة الكبيرة، إذ اعتاد الشاعر على شُرب فنجان قهوته الصباحي على شرفة منزله المطلّ على غابة تقع على مقربة من منزله حين لاحظ الشاعر الدخول المتكرر لثلاثة من الشبان إلى الغابة في الصباح الباكر، وخروجهم منها مساءً، وكانوا كلّما دخلوا وخرجوا سلّموا عليه.
وكان هو يتساءل:- ماذا يفعل هؤلاء الشبان داخل الغابة من الصباح إلى المساء؟
إلى أن جاء اليوم الذي ألقى الشبان التحية على طلال حيدر في الصباح ودخلوا الغابة، وفي المساء خرج طلال حيدر ليشرب قهوته المسائية المتوائم تقريباً مع وقت خروج هؤلاء الشبان المتكرر، لكنه استغرب عدم خروجهم بتوقيتهم المعتاد، أصيب بالقلق، وأطال في بقائه بالشرفة المطلة على الغابة على أمل رؤيتهم ليرد عليهم سلامهم المعتاد له، لكنهم لم يخرجوا.. ولم يظهروا.. وغادر شرفته بعد انتظار طويل.. ليفرض النوم على عينيه سلطانه الذي لا يرد له أمر.
وكعادة (طلال) في اعتياده الصباحي وهو يرتشف قهوته على أطراف الغابة ومذياعه الذي لا يفارقه، وأمله برؤية من اعتاد السلام عليه.. وإذا بخبر عاجل يصدح به مذياعه بـ (أنّ ثلاثة شبّان عرب نفذوا عملية بطولية فدائيّة وسط الكيان الصهيوني)، وعندما شاهد صور الشبّان الثلاثة بعد ذلك في وسائل الإعلام فوجئ بأنّ الفدائيين الثلاثة المنفذين، والمستشهدين بعد ذاك، هم نفسهم (أصدقاؤه الثلاثة)، الذين اعتاد أن يتلقى منهم التحية في الصباح والمساء، لتجول به الأفكار مابين الحزن ودهشة الخبر وفقدانه لهم (وعظمة العملية)، فهرع الى قلمه وأوراقه ليكتب لنا رائعته التي غنتها فيروز وهي:
وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان
وحدهن بيقطفوا وراق الزمان
بيسكروا الغابة بيضلهن مثل الشتي
يدقوا على بوابي، على بوابي
يا زمان، يا عشب داشر فوق هالحيطان
جبهة التحرير
القصة التي بدأت تفاصيلها بتاريخ 11 / 4 / 1974 بدأت باقتحام مجموعة من مقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة – مستعمرة (كريات شمونة) شمالي فلسطين، التي تقع بالقرب من قرية (الخالصة) الفلسطينية في (سهل الحولة) التابعة لقضاء (صفد) وسيطرت على مدرسة وبناية تتكون من /15/ شقة واحتجزت عدداً من الرهائن (الإسرائيليين) بعد معركة مع قوة إسرائيلية، حين تقدم (أصدقاؤه) الفدائيون الثلاثة بطلب الإفراج عن مئة من الأسرى الفدائيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية ، حسب قدمهم في الأسر منذ 1966، ومن بينهم الفدائي الياباني (كوزو اوكاموتوا) المحكوم عليه بالسجن المؤبد والمشارك في عملية (مطار اللد – عام 1972) .
يا زمان، يا عشب داشر فوق هالحيطان
ضويت ورد الليل ع كتابي
برج الحمام مسور وعالي
هج الحمام بقيت لحالي، لحالي
يا ناطرين الثلج ما عاد بدكن ترجعوا
صرخ عليهن بالشتي يا ديب بلكي بيسمعوا
لكن سلطات الاحتلال الإسرائيلية رفضت مطالب الفدائيين، وقامت بتعزيز قواتها في المستعمرة وشنت هجوماً على المبنى الذي يحتجز فيه الرهائن، وجرت معركة عنيفة بين المقاتلين الثلاثة وقوات العدو، ولهول المعركة وانحياز نتائجها لصالح العدو نفذ الفدائيون إنذارهم بتفجير المبنى بعد أن زرعوا العبوات الناسفة في أماكن مختلفة منه.
وحدن بيبقوا مثل هالغيم العتيق
وحدهن وجوهن وعتم الطريق
عم يقطعوا الغابة وبإيدهن مثل الشتي
يدقوا البكي وهني على بوابي
وقد اسفرت العملية عن استشهاد الفدائيين الثلاثة ومقتل /19/ إسرائيلياً وجرح /15/ آخرين، إضافة إلى الخسائر المادية، لتعلن بعد ذاك أسماء الأبطال الفدائيين العرب الثلاثة الذين جمعتهم عروبتهم وقضيتها.. فالأول كان ياسين موسى فزاع الموزاني الموسوي (أبو هادي) من محافظة واسط – جنوب العراق – مواليد عام 1947، والثاني كان منير المغربي (أبو خالد) فلسطيني من مواليد عام ١٩٥٤، والثالث كان الشيـخ محمود السوري من حلب، مواليد عام 1954.
يا زمان من عمر فيي العشب عالحيطان
من قبل ما صار الشجر عالي
ضوي قناديل وأنطر صحابي
مرقوا وفلوا بقيت عبابي لحالي
يا رايحين والثلج ما عاد بدكن ترجعوا
صرخ عليهن بالشتي يا ديب بلكي بيسمعوا
يا رايحين والثلج ما عاد بدكن ترجعوا
صرخ عليهن بالشتي يا ديب بلكي بيسمعوا
الفدائيون العراقيون
لقد كانت تلك العملية من العمليات المهمة التي جعلت (إسرائيل) تئن كثيراً من جراحها، إذ إنها كانت تصور لمواطنيها بأنهم في أمان كامل وجيش لا يقهر، فكانت تلك العملية وصمة عار وجبن في جبين وتاريخ الاحتلال.
ولمشاركة العراقيين مع المقاومة الفلسطينية قصص كثيرة ومتعددة اذ خاض الجيش العراقي معارك شرسة للدفاع عن فلسطين ومنع تهجير أهلها، ولعل معركة جنين التي اندلعت في 31 مايو/ أيار 1948 كانت مثالاً غير يتيم رمزاً لبطولة الجيش العراقي واستبساله جنباً إلى جنب مع المتطوعين الفلسطينيين، فقد شارك الجيش العراقي الباسل في معارك طاحنة أرهقت العدو الصهيوني بشكل كبير، ومازال سجل التاريخ يتحدث عن تلك المعارك البطولية حتى يومنا هذا، فقد تناول غالبية المدونين الفلسطينيين قصصاً خالدة عن بسالة العراقيين على مر التاريخ وهم يخوضون معارك الاستبسال والفداء.
ولعل البطل العراقي شديد البأس، ابن مدينة العمارة – ميسان الملقب بـ (جيفارا) الذي أذاق العدو كأس المرارة وهو يقاتل جنب الى جنب مع رجال المقاومة الفلسطينية، الذي استشهد في معارك جنوب لبنان، هو أحد هذه المفاخر.. المحزن فيها أن لا أحد يعرف اسمه الحقيقي غير الاسم الحركي (جيفارا)، وأنه كان من مدينة ميسان، إنه الفدائي البطل (أبو الفهود العراقي) الذي أذاق مع رفاقه من الفدائيين الفلسطينيين المرارة (لإسرائيل)، الذي استشهد بعد إصابته في كليته الوحيدة، ليستمر العراقيون برفد فلسطين بالفدائيين بلا انقطاع، أذكر منهم -على سبيل المثال- المناضل والأديب والفنان (أمير الدراجي)، الذي عاش في مخيم عين الحلوة وخاض كل معارك الثورة الفلسطينية من الأردن الى لبنان، وهاجر بعد اليأس الى النرويج حيث توفي قهراً في مدينة (كونغسفنجر) بعيداً عن مدينته الناصرية.
كذلك القائد أبو اليسار، المناضل الثوري العراقي، الذي قدم سنوات شبابه كلها في خدمة القضية القومية قضية فلسطين، وأيضاً أبو الفتوح وأبو تحسين وأبو مشتاق ومشرق، والعشرات بل المئات الذين ضحوا بدمائهم نصرة للقضية الفلسطينية.
لقد كان العراقيون سباقين ومازالوا أنصاراً أوفياء لقضية العرب المركزية التي لن تموت وإن طال بها الزمن، أبطال وفدائيون ومقاومون لم ينصفهم الإعلام أبداً، بل بقيت قصصهم مخبأة في طيات الكتب والذاكرة المنسية، ولولا (طلال حيدر) وفيروز والرحابنة الذين وثقوا لنا قصة هؤلاء الأبطال، لما عرفنا عنهم أية تفصيل ولضاعت قصصهم في أحراش الغابة التي كانوا يتمرنون فيها على تنفيذ عمليتهم، ونحن هنا نتساءل في نهاية مقالنا:
ألم يحن الوقت لفتح ملفات البطولة وتخليد قصص أبطالنا الحقيقية والواقعية في معارك الشرف والكرامة، التي يمكن أن تكتب عنها عشرات، بل مئات الأغاني والأفلام والمسلسلات التي تحث على الإيمان والبطولة والرجولة، والاعتقاد المطلق بقضايا أمتنا بدل ما يقدم أحيانا من (تفاهات) وانحلال فني وأخلاقي استولت على المشهد الفني بشكل لافت.. أو مقصود.