النجف.. منبع ثورات الحق
آمنة عبد النبي /
لا أثر لدفء عباءتك يا قارئ حروف المسمار والساتر، كي نلوذ بطرفها ونلملم طشار عمر بدده تجار الكراهية، ولا آه حارّة من جُرحك الرائب الذي كنت تلمّ في داخله السمران لتبقي هذا القلب آدمياً وبعيداً عن حتميات البيولوجيا. لذلك لن يفسرَ ديالكتيك طينك الحري وتحولات بياضك العرفانيّ إلا من عجن عطابة روحه بفروسية “أزهر الدليمي”، دمعة بكائنا الأخيرة الحارة في زقورة أور وبيت الخليل.
ولم يكن يقرأك بحالةِ تجلٍّ صوفية إلا من ولد عاشقاً كـ الأسمر المملوح “علي الكعبيّ” الذي لمحتهُ ذات جرحٍ تسعيني، خارجاً من بيتنا، لم أكن أعرفه، ربما لأنه لا يشبه ألبير گامو الذي أُدمنهُ، ولا مهياراً الدمشقي الذي كنت مع أدونيس نموت أحياءً في دفاترهِ كلَّ ليلةٍ..
لكنني أدركت، بعد رحيلك مع الصدرِ يا عليّ، استثنائيّة اللوعة وأنه لا وجود لأي مجدٍ فذٍ او نص عظيم في حضرة الدم.
يمحمَّد.. هكذا أُحبُّ أن أسمك سيّد
فلم أعرف كيف عاش الأنبياء حتّى عشتك ونطقت اسمك الذي كلما لفظته طار من فمي قرآناً بجناحين..
شحّ العمر وچلچل الليل والقهر علينا، وما عاد في الروح متسع للتحمل وتقاسم الحياة مع قتلةٍ بهوياتٍ ثبوتيةٍ، فأنتَ رغماً عن أنفِ ما يفترون سيد الساتر، والساتر مسكنه قلبك، ها هم وليداتك السمران العتّاگة والزلم أبناء التفّاگَة، المُتعبون أبناء القهر الفائض والآه المجانية تلو آهٍ وآه ..يأتون اليك من كلِ فجٍ وضيم، الباشوات بوجوهٍ ملحة وقمصان بالة، المحسودون بك لا بسياراتهم ولا بوجناتهم المتفحة، فلا أحد غيرك يزن دموعهم ويعرف أن لألمهم من يستحقه، دموعهم في حضرتك لا تحتاج إلا لبزةٍ لفظية لتدر ظليمتها للعالمِ بأسره، رسائل كثيرة ستذهب إليك الليلة بلا ريل ولا حقائب، وحدها الآه تسحن الروح وتصرخ:
وينه الحاربك وينه..
النجف حاضنة الشرارة
نظرة روح حالمة الى بيوتات النجف العتيقة وسطوحها المصففة بلمسات معمارٍ منفردٍ، ربما لا نجدها في أية مدينة أخرى من مدن العراق، لأن الخصوصية الجغرافية لتلك البقعة العلوية خُصت بالعديدِ من مصادفات القدر، كما هو حال بيئتها المجتمعية المتنوعة، التي كانت على مر التأريخ الراديكالي تشكل حاضناً جماهيرياً ونقطة انطلاق ثقافة الوعي السياسي الثوري الذي يرفض التعايش مع القتلة، ولا يركن لموائد السلاطين، لأن أية فكرةٍ جهادية بأرضِ النجف ستنضج على نارٍ هادئة ومرحلية، لأنها –بجدارة- عاصمة الرفض المجتمعي لأيِ مارقٍ، والمُقاوم الذي يخرج من بينِ بيوتاتها العتيقة لهُ خصوصية مأخوذة من خصوصية وآركيولوجية شخصيتها الدينية والثقافية التي تحتضن مقر الحوزة العلمية، باعتبارها قيادة أبوية مسموعة الكلمة، تسير بالتوازي مع بوصلة الوعي الجمعي القادر على سحق ما ينتجه الآخر المضاد، او يتطفل عليه من قيمٍ هجينة، لذلك تجد جميع المرجعيات الجهادية الإصلاحية التي انطلقت من الحاضنة النجفية مترابطة وممتدة ومكملة لبعضها بهدفٍ سامٍ لا يركن لجانبه الأكاديمي الفقهي فحسب، وإنما لبّه ولبابه صناعة المنهاج الثوري وتوريثه لمن يليه إنهاءً لفكرة استعباد كينونة الإنسان وأدلجة أفكاره.
لذلك أنتجت بيئة الغليان التي عاشتها النجف على عصور متفاوتة ومراحل كفاح متراتبة ثوراتٍ جهادية ظلت ليومنا هذا مُعلقة على أستار التأريخ، فمنها انطلقت ورفرفت رايات ثورة العشرين تحت غطاءِ وشرعنةِ فتوى الشيخ المُقاوم (محمد تقي الشيرازي) ضد الاحتلال البريطاني للمطالبة بالاستقلال، كانت فتوى الحقوق التي تجيز القوة الدفاعية، وأصبحت فيما بعد نقطة لافتة في التاريخ الحديث نحتفل بذكرى يومها الوطني كل عام باعتبارها شاخصة احتجاجية مشتعلة، أما في بداية الثمانينيات فقد انبثقت ثورة المرجع المفكر (محمد باقر الصدر) فيلسوف الديالكتيك ومفكك النظرية الاقتصادية، كان بحق هو المؤسس الفذّ للوعي الثوري الحديث والممهد للمرحلة الحاسمة من الصدام المباشر مع سلطة البعث المارقة، التي تبناها من بعده فعلياً في فترة التسعينيات وأعاد إحياء روحها النضالية بجرأةِ وحرارة الدماء هو الأبُ المقاوم الفذّ (محمد محمد صادق الصدر)، الذي أعلن تحديه المكتنز والمكمل لتأريخ نضالي طويل، إذ أطلق ثورته المنبرية الراديكالية الجريئة من منبر الفقراء، وتقدم هامة النضال البروليتاري بكفنهِ ومقلديه ومحبيه وجماهيره المليونية التي تحصنت بالموتِ وكلمة كلا.. كلا.. للطغيان..
أما فتوى الجهاد الكفائي للمرجع الأبوي الكبير (علي السيستاني) التي انطلقت في السنواتِ الأخيرة بعد أن هجم القراد الداعشي على عراقنا قادماً من غالبية أصقاع الأرض، أيضاً هي فتوى دفاعية مجتمعية انطلقت من ذات البيئة النجفية وأجازت لشبابنا وشيّابنا القوة الدفاعية لردع وسحقِ رايات الشر السود ومنع وصول المجاميع التكفيرية-داعش- الى كل البلاد..
وبالتالي فإن هذه الفتاوى جميعها بعضها من بعض
وأصحابها المراجع الأفذاذ بعضهم من بعض
جغرافياً وأكاديمياً وشرعياً وبطولياً، والشعب بكل الثورات عبر عن رفضه الذل وأعلن الكفاح النضالي ضد الاستكبار وتوابعه وأذنابه.
راديكالية الأب المقاوم
هنا – كما عوَّدنا في تأليفاته – يأتينا بما هو غير مألوفٍ وحداثوي في دراسة البنية السوسيولوجية للمجتمع، وصقلها بدلالات وقيم ومعايير الملحمة الحسينية في مجلدهِ (أضواء على ثورة الحسين ع).. لذلك نجد أنَّ سماحة المؤلّف يتطرَّق بأسلوبٍ استدلالي يُعرِّفنا من خلاله بأهداف الحسين (ع) الحقيقية عبر مادة علمية مركزة تحمل بين طيّاتها مضامين عِدَّة حول آلية الطريق الصحيح في صناعة ثقافة الإصلاح الذي يجب أنْ يتَّبعه خُطباء المنبر الحسيني، لكي لا يقعوا في المُحرَّمات لا شعورياً، وأن لا تأخذهم الميول الدنيويَّة، فكلُّ ما كُتِب في هذا السفر الخالد مُرَّكز على مناقب الحسين(ع) وكيفية صقل تلك القيم الإنسانوية بمعايير المجتمع وتصحيح ثغراته، لذلك جاءت مخرجات ثورة الصدر والأب المُقاوم على شاكلة مواجهة حسينية إصلاحية غير مقتصرة على رفض النظام البعثي المارق وعبثه بالوعي المجتمعي فحسب، بل بفضح مغذيات الاستكبار العالمي التي تقف خلف هذا النظام، أسلوب متطور جداً في المواجهة للحوزة العلمية مع الاستكبار العالمي عبر سياسية إعلامية واجتماعية مضادة وصادمة لمخططاتها، لذلك اختارت الثورة الإصلاحية للصدرِ القاعدة الشعبية ميداناً بمدنها المتهالكة وإنسانيتها المسلوبة وحقوقها المضطهدة كنقطة انطلاق حية وعنوان لانطلاق صرخة صدرية ثائرة تخرج بإباءٍ من تحتِ سقوف الچينكو ومن خلف عربات البسطاء وچنابر الكسبة أصحاب الوجوه السمر الأبية والسواعد الماسكة لجمرة الحق والرافضة لأيِة مهادنة وتراجع.
إذن، فعملية خلق الوعي الثائر من خلال المنبر الصدري أنتجت ثقافة اقتلاع جذور الخوف والرعب من القلوب والصدور، وهي الميزة النادرة لصرخة الإصلاح المجتمعي غير الآبه لجمهورية الرعب البعثي، ثورة فقراء كادحة غذاها الصدر براديكاليتهِ الثائرة، لتحمل رسالة مكفنة بالبياض تقول للعالم بأسرهِ:
نحنُ أمة حية لا ترضى أبداً بالموت السريري.
الغجر وإنسانية الصدر
كنت أدرك أنك ذلك الحضور الملكوتي المَهيب، الذي كلما يمشي، يقطع أشواطاً إلى قلب السماء، وكنت أدرك – أيضاً – أن جوقة البعث بأفّاقيه الذين أرادوا جعلك حبيساً وصامتاً في خِزانة “الأنتيكات” لن يفلحوا، وحدكَ “فَلّاح” الشجاعة وغارسها في أرض الوطنِ الذي لن يستريح بدونك..
البساطة شديدة هنا، كنت تريد لضميرِ هذه الأمة ان يكون أممياً بدلالاتهِ وإنسانوياً ببعديه الفلسفي والأخلاقي، وذلك لبيان معادلة مفهوم المرجعية وثقلها العابر للجغرافيا والقومية، لذلك جاء في مقطع من مقاطع خطابه الأبوي ووصاياه لشريحة الغجر في خطبة الجمعة-الخامسة والأربعين- 3 ذي القعدة 1419:
”فيا أيها الغجريون لستم أول من خاطبهم الإسلام ولا اول من خاطبهم القرآن ولا أول من خاطبتهم الحوزة الشريفة ولا أول من خاطبهم السيد محمد الصدر إذا بقيت الحياة، عسى أن مجتمعكم وأفرادكم ينظرون في مصالحهم الواقعية ويعيدون النظر في عاداتهم الموروثة وتعصباتهم التقليدية”..
إذ دعاهم الصدر إلى حضور صلاة الجمعة حينها، الخطوة الغريبة والنادرة في تاريخ العقيدة، التي اعتبرها الكثيرون متفردة في خطاب المنبر، لكن الصدر “نجح” فعلاً في ذلك وأجرى تغييراً في معتقداتهم وسلوكياتهم عبر خطابه الشعبي القريب من عقلهم الجمعي، كان همهُ الأول أن يسحبهم من بؤرة الوصم المجتمعي ويلحقهم أكارم بالهوية الإنسانية، لأنهم على مر التأريخ كانوا يوصمون بـ الكاولية، ذلك اللفظ التحقيري المعتاد لوصف مجتمعاتهم العابثة.
يتضح جلياً هنا أن الصدر المقاوم استطاع تشخيص ومعالجة غالبية المشاكل التي كانت تعصف بالمجتمع العراقي عبر مخاطبته المنبرية وبأسلوبٍ تربوي أبوي ترف لجميع طبقات المجتمع وباختلاف المستويات الثقافية والفكرية، فقد خاطب الأطباء وموظفي الدولة والجيش والشرطة وأصحاب المحال والكسبة والسدنة، كما خاطب بقية الأديان، وآخر من خاطبهم ووجه نداءه الجاد لهم هم شريحة الغجر.
إصلاح فقه العشائر
صولات كونكريتية بنسقٍ إصلاحي سلوكي، تبناها الصدر من على منبرهِ وداخل حلقاتهِ المجتمعية النقاشية، فُهرست فيما بعد متسلسلة بكتابه البحثي (فقه العشائر)، الذي وضع من خلال أجوبتهِ معياراً أخلاقياً ومعولاً سلوكياً حاداً لتهديم العرف العشائري اللاإنساني والمُشرعن لـقضايا اضطهاد النساء بالفصلية والانفلات العشائري المسلح والثأر وإشاعة الفوضى بالغلبة العشائرية، وكذلك الأحكام الجزافية الدموية التي جرى عليها العرف العشائري، فالكثير من تلك الظواهر المرفوضة والمسكوت عنها دخلت دائرة المتفق عليه وبمقبولية سياسية او اجتماعية، وأن الأنظمة العشائرية والتقاليد المتبعة داخل البنية الاجتماعية فيها مخالفة صريحة للشريعة، ومع ذلك ترى لها قوة في التطبيق أشد من قوة الشريعة، وبالتالي يرضخ لها الإنسان وينصاع بتخاذل وإن كان في ذلك معصية، لذلك جاءت ثورته الإصلاحية هنا بالاستناد على أساس التفاضل ما بين الناس بميزان المعيار الأخلاقي، ولا علاقه له بالنسبِ ولا الحسبِ ولا الثراء وإنما هو التقرب من الله وتقواه، وبهذا المعيار ينظر الإسلام إلى الناس، فتراه يرفع سلمان الفارسي ويجعله من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وبالمقابل تنزل سورة كاملة في القرآن الكريم بذم أبي لهب عم الرسول (ص)، وعليه فلا ينفع المذنب والغارق في خطيئته رئيس عشيرة أو فخذ أو حمولة، سوى ما يقدمه من خُلقٍ في سلوكه.
إذن، تمضي الليالي وحيدة يا صاحب الشّيبة التي كانت يوماً ما تبدو وكأنها المُدن العامرة بالأمان والكرامة، لطالما آمنت أنك وحدك المارّ بمدن الوجع وعيون أطفالها، هذه العيون في الحقيقة هي آبار مصنوعة من مليون دمعة، لذلك جاءت صرختك الصدرية توأمة لصرخة العظيم وأبي الأحرار الحسين (ع) يوم عاشوراء :
لا للطغاة المتكبرين والمتجبرين..