رفضاً للفساد والاستبداد واقعة الطف… ربيع ثوري هبّ على الأرض

1٬946

#خليك_بالبيت

إياد عطية الخالدي /

يحيي العراقيون مع الملايين من المسلمين ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، إذ تتوشح المدن بالسواد وتعم مظاهر الاحزان.
ويأتي إحياء هذه الذكرى وسط جدل كبير بين فريق يصر على مخالفة توصيات المرجعية وإحيائها بكل المراسم والشعائر التي ارتبطت بها، مثل مجالس العزاء وسواها وبين من يحذّر من أن الإصرار على أن المجالس والتجمعات سيكون سببا في زيادة وتيرة تفشي فيروس كورونا المستجد.
وتعدّ مراسم عاشوراء أحد أكبر التجمعات الدينية في العالم، إذ يتدفق ملايين الزوار من جميع أنحاء العالم إلى العراق من أجل إحياء هذه المراسم.
وتصاعدت الدعوات إلى التقيد بإرشادات المرجعية العليا التي أكدت التزام التعليمات التي تصدرها الجهات الحكومية، في ما يخص مواجهة الفيروس. وفي هذا السياق حذرت منظمة الصحة من ارتفاع معدلات الإصابة بكوفيد ١٩ في العراق نتيجة عدم الالتزام بالإجراءات الصحية التي تحول دون انتشاره.
التشديد على الالتزام بالتعليمات
وأظهرت المراسم الأولى لشهر محرم والمجالس التي عقدت لإحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام التزاماً جيداً ببعض الإجراءات الصحية للحيلولة دون تفشي الوباء، لا سيما في مسألة التباعد بين رواد المجالس الحسينية.
وبخلاف الأعوام الفائتة لم تشهد كربلاء حشودا وتجمعات ومواكب ومسيرات حاشدة، إذ بدت الحشود أقل بشكل ملحوظ تحت اللافتات السوداء التي توشح بها ضريح الإمام الحسين. وللمرة الأولى كان أغلب الزوار من السكان المحليين بعدما تم حظر الدخول إلى المحافظة على سكان المحافظات الأخرى، لكن عراقيين من محافظات أخرى تمكنوا من التسلل إلى المدينة مستخدمين طرقا نيسمية للتحايل على نقاط التفتيش، كما أن بعض نقاط التفتيش كانت متعاطفة، وسهلت مرور بعض الزائرين.
وعمد العديد من قراء المجالس الحسينية إلى بث محاضراتهم الدينية الكترونيا عبر شبكة الانترنت التزاما بتوجيهات المرجعية الدينية العليا.
المجالس تاريخياً
وتذكر المصادر التاريخية أن الإمام الباقرعليه السلام هو أول من أحيا ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، وأقام مجلساً حضره الشعراء الذين عاصروه ومن أشهرهم الشاعر الكميت الاسدي والسيد الحميري، إذ ألقوا قصائد مؤثرة عن الإمام الحسين وتضحيته، واستمر إحياء هذه الذكرى التي اقتصرت على مشاركة الشعراء إلى عهد الإمام الرضا عليه السلام، وبرز فيها الشاعر دعبل الخزاعي، لكن هذه الشعائر خبت في النصف الأول من عمر الدولة العباسية.
الشيخ المفيد
وتاريخياً فإنّ الشيخ المفيد أول من نصب مجلس عزاء كبير ووضع إطاراً جدياً في القرن الرابع الهجري بحسب الباحث الاسلامي الدكتور صلاح عبد الرزاق، والشيخ المفيد كان محدّثاً وخطيباً لدولة وعالماً بعلوم آل البيت (ع) وحياتهم، بعدها أصبحت الشعائر والطقوس التي أقامها الشيخ المفيد تقليداً استمر إحياؤه إلى هذا اليوم، فاهتمت هذه المجالس والمنابر باستذكار الوقائع التاريخية لواقعة الطف ووصف تفاصيلها.
إذ مثّل استشهاد الحسين بن علي عليهما السلام حدثا تاريخيا فارقا في حياة المسلمين، عندما رفض الإمام الحسين مبايعة الخليفة الاموي يزيد بن معاوية الذي عيّنه والده معاوية خليفة للمسلمين من بعده.
ومنذ سقوط النظام السابق على أيدي قوات الاحتلال الامريكي، شهد العراق أكبر المظاهرات لإحياء هذه الذكرى، التي عمل النظام السابق على منعها، وقمع أي فعالية لاستذكارها، وعدّها تهديدا لنظامه الدكتاتوري إذ توسعت المراسم الخاصة بإحياء هذه الذكرى، بيد أن الاتهامات طالت بعض القوى السياسية التي اتهمت باستغلال هذه المناسبة لتحقيق مكاسب انتخابية. وتواجه مراسم إحياء الشعائر الحسينية في السنوات التي أعقبت سقوط النظام السابق عمليات إرهابية تشمل هجمات انتحارية وتفجيرات واعتداءات مسلحة من قبل التنظيمات المتطرفة كتنظيم داعش.
تجسيد القيم
ويقول عميد المنبر الحسيني الدكتور أحمد الوائلي في حديث مسجل إن إحياء ذكرى الإمام الحسين مقدسا بالعمل والعلم على استخلاص دروس الشهادة والعطاء التي قدمها الإمام ومن المهم أن نركز على تجسيد قيم الحق التي ضحى من أجلها الإمام، وليس الفعاليات التي لا تضيف لمعنى ثورة الحسين فكرة.
وتثير ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام أسئلة كبرى لدى المحتفين بإحيائها، ما الذي ينبغي أن تفعله الملايين كي تبقى قيمها متوهجة وكي تظل معانيها سامية وتزهر دماؤها كما أرادها الحسين سراجا يضيء حياة الإنسانية التي استلهمت الكثير، فالثورة لا بدّ أن تكون ملهمة لأنصار الإمام الحسين بهدف تغيير الواقع المر الذي يعيشه العراق، فأرض الشهادة وأرض الحسين ينبغي أن تكون منارا للعدل والحضارة، وصوت الحسين لا بدّ أن يبقى مدويا ضد الظلم والفساد والتخلف.
حاجة إنسانية
ويقول الشيخ فرحان الساعدي إن ثورة الحسين هي ثورة مواقف، حيث الوقوف بوجه الحكام الطغاة والمستبدين، الموقف الأول الذي يمثل درسا إنسانيا، ظل يمد الثوار شعوبا وأفرادا بالعزيمة على مقارعة الحكام المستبدين، ورموز الثورة والمضحون في كل العصور يتحدّثون عن استلهامهم قيم الحسين وصبره وتضحيته في مواجهتم للظلم والاستبداد، من غاندي إلى نيلسون مانديلا إلى الكثير من رموز التحرر والشجاعة، وهنا يكمن الموقف العظيم في ثورة الإمام الحسين، إذ رفض الطاعة لحاكم مستبد وجائر، وهذا أمر لوحده يدعو إلى استذكار ثورة الحسين. بالطبع ان فكرة الخضوع للاستبداد، ما زالت باقية نحن نشاهدها، لكن الحسين رفض الاستبداد، فعندما سأل الإمام الحسين جيش يزيد لماذا تريدون قتلي، قالوا طاعة لأمر يزيد، الحسين هنا يكرّس موقف أن لا طاعة لأمر حاكم جائر، لا ينبغي إطاعة الحاكم المستبد، هذه عبرة وموقف، بالطبع الناس ما زالت ترضخ للظلم لكن الحسين وذكرى الحسين حافز لها للتمرد والثورة ضد الطغيان.
ويقول الدكتور الشيخ فيصل الكاظمي: إن الاهتمام بذكرى عاشوراء وتخليد واقعة الطف يعني السعي لتوفير حاجة إسلامية وإنسانية تتجسّد في رفض الانحراف، والوقوف بوجه الخنوع والإصرار على الاستقامة، وأن إحياءها والتذكير بمواقف الإمام له عظيم الاثر في حياة الناس، وليس بوسعنا أن نقدر مساحة هذا التأثير، ولفت لكاظمي إلى قول الله تعالى: (لا يغير الله بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، إذ إن كتاب الله هو كتاب لتغيير الناس إلى الأحسن، إن هذا القول بما فيه من سمو ورفعة، هو إعجاز في البيان أيضا بالنسبة إلى الدارسين بعلم الاجتماع، علم النفس وغيرها من العلوم الانسانية، ولذا فإن قيم ومواقف الإمام راسخة، وهي كافية لتغيير الإنسان والارتقاء به والسمو مكانته، ثورة الإمام الحسين هي رفض للاستبداد والظلم، وهي إحياء لقيم العدالة والحرية.
الحق ضدّ الباطل
الشيخ محمود شاكر الدليمي، إمام وخطيب جامع الشيخ معروف الكرخي، عن ثورة الحسين (ع)، الحق ضد الباطل، يقول: قال الله تعالى في كتابه العزيز ((إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي))، على هذا الأساس قامت دولة الإسلام على هذا الميزان الرباني التي وضعها للناس والتي لا يعتريها الخلل والنقصان لكي يهنؤوا في حياتهم ويسعدوا في أخراهم، فلا ظلم ولا طغيان.
وبعد انتهاء الخلافة الراشدة وما قامت به من فتوحات لتوسيع دولة الإسلام لتصبح مترامية الأطراف تولّى المسؤولية في الأمصار حكامٌ انحرفوا عن منهج النبوة الذي أوصى به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتسرّب الظلم والجور والطغيان إلى مجتمعاتها، فقام سيدنا الحسين بن علي (عليهما السلام) رافضا ذلك الواقع ومناديا بعودة الأمة إلى منهج جده رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فدفع روحه الزكية؛ هو وأهل بيته الأطهار ثمنا لهذا المبدأ الذي تركه رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) لهذه الأمة، وبقيت الأمة تستذكر هذا الموقف منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، موقف الحق ضد الباطل، هذا الموقف رغم قساوته على المؤمنين الا أنّه أوقد في الأمة روح الفداء والشجاعة من أجل إحقاق الحق والوقوف بوجه الظلم والظالمين.
مشروع نهضة
ويؤكد الريشما ستار جبار الحلو رئيس طائفة الصابئة المندائيين في العراق والعالم أن ثورة الحسين واحدة من الثورات الفريدة في التاريخ، لم يظهر لها نظير حتى الآن في مجال الدعوات الدينية أو الثورات السياسية.
إذ قدّم الحسين للعالم درساً في الفداء من خلال التضحية بنفسه وبأعز الناس لديه ومن خلال إثبات مظلوميته وأحقيته، وأدخل الإسلام والمسلمين إلى سجّل التاريخ. وعدّ الحلو أن الحسين أثبت أنّه الجندي الباسل في العالم الإسلامي لجميع البشر وأنّ الظلم والجور لا دوام لهما، وأنّ صرح الظلم مهما بدا راسخاً وهائلاً في الظاهر، إلّا أنّه لا يعدو أن يكون أمام الحقّ والحقيقة إلّا كريشة في مهب الريح.
ويرى رئيس الطائفة المندائية أن محرم الحرام هو شهر النهضة الكبرى لسيد الشهداء والأولياء عليهم السلام الذي علم البشر الثورة والنهضة والبناء.
وذكرى عاشوراء ليست مجرّد ذكر لبعض الخواطر والذكريات والأحداث فقط، وإنّما هي تبيان لحادثة في غاية الأهمّية ولها عدد غير محدود من الأبعاد والجوانب التي تركت أعمق الآثار في حياة الأمة الإسلامية على مرّ التاريخ.
وحقيقة كلما حاولت أن أعبّر عن الحسين بكلمات، وجدت أن الكلمة عاجزة عن التعبير عن نفسها فيه، فالحسين ليس شخصاً، بل هو مشروع .. وليس فرداً، بل هو منهج ..
وبيّن الريشما ستار جبار الحلو أنّ الإمام الحسين اعتمد على قوّة المنطق، واعتمد عدوه على منطق القوة، ولما سقطت قوة عدوه، انتصر منطق الحسين، وكان انتصاره أبدياً.
تمزّقت رايته .. ولم تنكس ! وتمزقت أشلاؤه .. ولم يركع !
وذبحوا أولاده وإخوانه وأصحابه.. ولم يهن ! إنّها عزة الإيمان في أعظم تجلياتها.
كل منّا يتحمّل مسؤولية الحفاظ على هذه الثورة الحسينية المباركة من خلال إصلاح نفسه وأهله وأسرته وأن نأخذ من شهادته درسا لبناء أنفسنا وبناء وطننا وأن نعيش بمحبه وتكاتف وسلام.
فعاشوراء مدرسة مفتوحة للجميع، وكل منا يجد في ثورة الإمام الحسين عليه السلام ما يطلبه من العزة والكرامة والقوة والموقف الكريم العزيز وإباء الضيم ورفض الذلة والظلم.
وختاما.. الحسين شهيد طريق الدين والحريّة، ولا يجب أن يفتخر الشيعة وحدهم باسم الحسين، بل أن يفتخر جميع أحرار العالم بهذا الاسم الشريف.
ربيع ثوري
ويؤكد الدكتور نابلس صلاح التميمي الاستاذ في كلية العلوم الاسلامية بجامعة كربلاء أن الثورة الحسينية كانت سلاحاً ناجعاً لمنع تنامي الفساد، ودفع الناس للانتفاض على المفسدين وتعرية أساليبهم؛ لهذا كانت الثورة ثورة عامّة صلحت لكلّ أُمّة ولكلّ جيل والثورة الحسينية رفضت العيش تحت الضيم والظلم، وتقويض الهوية الإسلامية، واستبدالها بهويات كانت تتصارع من أجل الوصول إلى السلطة، وهذا من أكبر الأسباب وأشدّها تأثيراً على الهوية الإسلامية، وهي الهوية القبلية التي حاربها الإسلام.
وبيّن الدكتور التميمي في دراسته عن ثقافة الثورة لدى الإمام الحسين عليه السلام أن ثورة الإمام وضعت حدّاً فاصلاً منعت نمو الفساد في الهوية الإسلامية الأصلية، فشرّعت الموت من أجل الحياة، وهو مفهوم استوعبته العامّة والخاصّة حينها؛ لأنّ الحدث كان يتطلب مخرجاً من مزلق الظلم الذي ساق الناس كالأنعام، وتسلّط على رقابهم وضمائرهم.
وأشار التميمي إلى أن ما حصل في ثورة الإمام الحسين عليه السلام لم يكن حدثا ليتوقف، بل امتدّ الحدث وتوالد عبر عصور لاحقة، وصولاً إلى أيامنا هذه؛ لهذا يمكن عدّ الثورة الحسينية رمزاً إنسانياً ينبض بالتعبير الإيجابي وما زال إلى اليوم.
فالمقصود بالثقافة هُنا (Revolation‬): «كلّ ما فيه استثارة للذهن، وتهذيب للذوق، وتنمية لملكة النقد، والحكم لدى الفرد أو في المجتمع، وتشمل على المعارف والمعتقدات، والفن والأخلاق، وجميع القدرات التي يُسهم بها الفــــرد، أو في مجتمعه.
ويرى الدكتوز التميمي أن ثورة الإمام الحسين كانت بمثابة ربيع ثوري هب على الارض وغيّر كثيراً من المفاهيم، وأقلق كثيراً من الثوابت في التاريخ الحديث، إلّا أنّ للمسألة وقفة تأريخية قديمة يشهد التاريخ بريادتها للإمام الحسين عليه السلام، تلك هي معركة الطفّ، فالإمام عليه السلام «إنّما خرج لطلب الإصلاح في الأُمّة، وهو ربيب النبوة، فسيرته في النهضة والإصلاح منهج يُقتدى، وخطابه ومواقفه تشكل معالم هادية لكل حُرّ غيور على مصلحة أُمّته”.