غبشة عيد بغدادي
آمنة عبد النبي/
البغداديون أريحيّون وحبيبات دمهم تُشبه العصائر مركّزة الحلاوة، يشعرون بأنّ كلَّ شيء مباح طالما كان ممهِّداً للوناسة، لذلك فهم بارعون في طرد “(ضيكة الخلكـگ”) حتى بدت وجوههم المحمرَّة بمسحة بياض مثل شكردانة منزوعة الاكتئاب،
في قواميسهم لا وجود لشيء اسمه “عيد أيام زمان” ولا يسمحون لأيِ فاصل زمني مُرّ يعكر مرور شريط العمر، وإنما يربون البسمات داخل الحوش مثل البنات، تكبر إحداهن وتحلو وتتأنق وهي خالية من المنغصات والعقد، لا سيما عندما تطوف الذاكرة وتقف لبرهة حيث رنّة “حجل” الخاتون المزيونة بعباءة يطرز طرف ردنها خيط كلبدون لتبدو أكثر أنوثة ودلالا، ورائحة الذوق تفوح قبل العطور، وتلفزيون “القيثارة” ﻭساعة “ﺍﻟﺠﻮﻓﻴﺎﻝ” ﻓﻲ معصم “جدو” ﺃﻏﻠﻰ ﺃﺟﻬﺰﺓ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﺳﻌﺮﺍً ﻭﺃﻛﺜﺮﻫﺎ رُقيّاً وﺣﺪﺍﺛﺔ، أما طاسة الحنَّة فهي غبشة عيد الدربونة وهويَّة لأفراح محلة عيدية أطفالها “الطاگة” مجرد عملة معدنية تتراوح ما بين عشرة فلوس إلى خمسين فلساً وتكون عادة مجهزةً قبل ليلة ومطويَّة مع ثياب العيد تحت الوسادة، لكن بساطتها تشبه حلاوة الاعياد المحفوظة بكؤوس زجاجية هشّة وملفوفة بقماش المحبة توزع في صباحات العيد وعند المراجيح وتحديداً في اللحظة التي يبدأ صاحب المرجوحة العد التنازلي، ملوّحاً بانتهاء المدة: هاي زوادة… العبد السادة ….طلكَـ مرته وعاف اولاده …بالكرادة الشرقية..
هم أبناء اللحظة الترفة وكأن الله لا يريد إلّا أن يراهم مبتهجين، يعرفون كيف يملؤون عقولهم برزانة الصمت، اذا تعلق الامر بالتشدّد ومكر السياسة، لذلك لا غبشة لأي عيد بغدادي دون الاستيقاظ على صوت كلثومة وهي تهلل بـ”يا ليلة العيد” وفي الظهيرة لا تحلو گعدة الحوش إلّا برفقة تعلولة الچاي المهيّل والكعك وطربية الغزالي بـ “ميحانة ميحانة” طبعاً، هذا الجمال كله قبل أن تشوغ الروح برائحة ماعون ﺍﻟﺒﺎﻣﻴﺔ المتسرّب ﻣﻦ فتحات الشبابيك والخبز المكسب فالبيوت لا تخلو من “تنور الطين” والعائلة بأكملها اعتادت أن تتابع بشغف أخبار الرياضة والعلوم المتتالية على لسان البدري والدباغ، وكذلك عدسة الفن لخيريّة وجلسة لطافة سينمائية في الساعة الرابعة عصراً مع نسرين جورج، أمَّا المساء فالترقب حتماً يكون محصوراً بـ “كوكب الشرق” من الاذاعة لساعة متأخرة باعتبار أن التلفزيون المغطى بقطعة قماش مزركشة يغلق شاشته في موعد محدد مثل أي محل أو مطعم او چايخانة.
الغريب في كوكب الفنطازيين المدهشين هؤلاء الذين كلما تذكرت أصنافهم الجمالية المتوزعة في متنزهات العيد نهاية التسعينيات، أشعر وقد تحوّلتُ، كليّ، إلى قلبٍ كبيرٍ، وفي مقدمة هذه الاصناف الجد البغدادي “السپورت” الذي لا يقيم وزناً لما قد يتساقط من أفواه الحاسدين، معه حشد من حفيداته البنات بنفانيف منقّطة وقصات شعر كاريه مرفوعة الجانب بقراصة كيوت، وعادة ما يكون أحمراني البشرة ويرتدي بنطالا أنيقا وقميصا بيج بنصف ردن ونظارات رفيعة محمولة بسلسلة، هذا الجد داينمو الفرفشة والاستئناس بكل لحظة، أمَّا الصنف الثاني الذي عادة ما يشق جدار الطرافة المجانية بقلق فهو أصوات نسوة تأتي قريبة وبعيدة تتساءل : عزا وين دريد.. وين سنان.. ولكن سرعان مايظهر الطفل المختفي عائداً من أحد المراجيح البعيدة عن المركز فتعود الضحكة الممتعضة بكلمة “انزول عليك”..
أمّا مشاوير السينما في عصريّة العيد فلا غنى عنها، وتتلخص باتجاه منطقة باب الشرقي وشارع الرشيد، ولو سألت عن مسقط رأس النستالوجيا المُحبّبة في بغداد فسيكون الجواب فوريّاً:
صالات السينما الشهيرة هي الوحيدة القادرة على سجن الشرّ في قمقمه، والتي ما زالت قائمة، مثل سينما السندباد والخيام وسميراميس والنصر والنجوم.
ربما لم تكن بغداد أجمل المدن.. وإنمّا هي بالحقيقة مدينة تدوّخ، تشبهُ لوحةً فرنسيةً غامضة، اذا تَورَّطت بالتمعُّنِ بها فلن تستطيع الخروج من ملامِحها طوال حياتك إلاّ وأنت محمول بجنازة، ولو غادرتها مجبوراً فستمضي بقية حياتك وأنت تلصق ملامحها في وجوهِ جميع الحيطان البعيدة ولن تَنجَح، رُبَّما لأنها كانت ماهرة في جمعِ أحزانك وتجفيفها بأكياسٍ سعيدة.. لا أعرف.