مظفر النواب يسمو بين مراثي سومر.. ونبتة خلودها

1٬978

مجلة “الشبكة العراقية”/

ووري الثرى أسطورة الشعر العراقي مظفر النواب بعد أن عاش مهاجراً مغرداً من مدينة الى مدينة، قبل ان يحط رحاله في مثواه الأخير الى جانب والدته في مقبرة دار السلام بالنجف الأشرف، حسب وصيته.
رحل النواب عن 88 عاماً، أمضى أحلاها حزناً، كان “الحزن جميلاً جداً والليل عديم الطعم بدون هموم،” ويالها من مفارقة أن يعود جثمانه من الشارقة، إذ كان بضيافة أميرها، التي فازت باستضافته في أيامه الأخيرة، حيث لفظ في أحد مستشفياتها أنفاسه الأخيرة،
وليعود الى بغداد بطائرة رئيسها، وهو الذي استلّ سيف الشعر في وجوه الحكام والرؤساء، وأقام جبلاً من العداوات مع الحكومات العربية.
البغدادي الذي خلع ثياب الأرستقراطية وصاحبَ الفلاحين في الجنوب وتأثر بفضائلهم وحفظ كلماتهم، وانحاز كلياً الى قضاياهم، وتشربت روحه بهواجسهم، وحنّيتهم، ففجر كل أحاسيسه شعراً بلغتهم الشفافة التي دخلت قلوب الناس برغم كل سواتر الحظر
“يمامش بمامش وللمامش يميزان الذهب وتغش واحبك
و اريد اكلك طرني حسنك يا بنفسج
وانت وحدك دوختني يا بنفسج
وعلى حبك آنا حبيت الذي بحبهم لمتني”. شكّلت قصائده بالفصحى والمحكية مراثي للحب الضائع، وللفرح الذي ضل طريقه عن شعب يعيش المأساة، وحتى تلك الكلمات التي تلامس القلب كأنها معزوفات موسيقية، لم يكتبها الشاعر ليغنيها المطربون، لكنها سحرتهم كما سحرت من استمع إليها وتربى على قيمها، لقد كان النواب عراقياً يعيش الحزن ويصوغه قلائدَ للعشاق والمظلومين والحالمين، وللثوار أيضاً، كان صوتاً للّوعة المكبوتة في صدور العراقيين وهو ينشد: “هضيمة تحنّنْ الشّامتْ عليَّ”
يلي ما جاسك ذكر بالليل ما جاسك سهر
يلي بين حواجبك غفوة نهر
يلي جرد سما بعينك خاف افززها من اكلك
آنا احبك آنا احبك
كان النواب صوتاً حقيقياً مدافعاً عن وجود الإنسان وحريته التي ناضل من أجلها طويلاً، واتخذ موقفاً أصيلاً ضد الطغيان، مثقفاً لم يهادن السلطة ولم يرتعش من جبروتها طوال عقود، فكان نقيضاً بين المتناقضات، فهو الممنوع المطلوب والمحظور الرائج، وهو السجين المحرض على امتلاك الحرية.
أولاد (الـ…..)
لست خجولاً حين أصارحكم بحقيقتكم
أن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم
تتحرك دكة غسل الموتى
أما أنتم
لا تهتز لكم قصبه!
تحققت نبوءتك، متَّ ولم تمت قصديتك، فقد ألقى العراق كله نظرته الأخيرة عليك.. وأنت القائل “يجي يوم نرد لاهلنا. ”
يجي يوم نرد لأهلنا
يستذكر الشاعر كاظم غيلان، أحد أصدقاء الفقيد مظفر النواب، او كما يحلو لأصدقائه أن ينادوه بـ “أبي عادل”، علماً أن الفقيد لم يتزوج، وأن عادلاً أقرب ما يكون صفة، لأنه كان عادلاً مستقيماً، شرساً، صارخاً بوجه الأنظمة بكل جرأة.. ما يميزه في الشعر أنه جاء بلهجته العامية العراقية لينفض عنها الغبار ويبدأ بتجديدها منذ (للريل وحمد)، لقد صرح بكل ما لديه من مساحات لفلسطين وأريتريا وظفار مثلما ابتدأ هنا في هور (الغموكة) جنوب الشطرة العراقية.
“هنا في الجنوب، رمى بثيابه الأرستقراطية وانسلخ عن حياته البغدادية، وانغمس في حياة الريف وتشرب بمعاناته، ليكتب أول رثائية عن المرحوم صاحب ملا خصاف (صويحب)، من الكحل والدمع والهلال إذا انحنى، وشمس الفلاحين وبنادق المناضلين في كل جبهات مقارعة الظلم، كان مظفر رصاصة، وكان أغنية للعاشقين وإلا كيف يقول: (أشم أحرف النجمات فوك شراعكم تسهر)، كل ذلك في أهوار آل ازيرج، مظفر يمشي معنا وهو يمنحنا الأغنيات ويكتشف كل ما هو جميل في حياتنا، بدءاً من ذائقته المغلفة بكل ألوان الجمال، يوم قال مكتشفاً الذات: (جانت ثيابي علي غربة)، فأية غربة هذه التي امتدت لعقود ليقفلها معنا (ياسولة سكتّي)!
لقد سكت الجسد وابتدأت الآن معرفتنا بمظفر العمق والسطح الشعبي والأغنية التي لا تطل إلا على لون أو اغنية جديدة، ولتكن (متت بهموم وسكتّي غلطتك يل جنت كلشي)، وهكذا حط جثمانه وكأنه يغني لنا في مبنى اتحاد الأدباء يعيد علينا جملته (يجي يوم نرد لأهلنا)، وهكذا رد علينا جثماناً مثلما منحنا الحياة.”
قصائده تجلد الخونة
أبدع النواب في شعره برسم الكلمات، فهو لم يطرح نفسه شاعراً غنائياً، لكن أشعاره تحولت الى أغانٍ تملكت ذاكرتنا.. فهو المعروف بقصائده المشبعة بالدم والدمع والحث على الثورة وشتم الحكام وتعريتهم، وهو يقدمُ بعداً إنسانياً وثورياً في آنٍ واحد، من “الخوازيق” الى “قمم” ومن “بيان سياسي” الى “باب الكون” ومن “ثلاث أمنيات” الى “موت العصافير” ومن “أفضحهم” الى “زرازير البراري” ومن “القدس عروس عروبتكم” الى “رحيل”.
هكذا شقَّ طريقه في عوالم القصيدة مابين اللهجة العامية واللغة العربية الفصحى، ومن “وتريات ليلية” الى “الرحلات القصية” ومن “المسلخ الدولي” و”باب الأبجدية” الى “بحار البحارين” ومن “قراءة في دفتر المطر” الى “الاتهام”، ومن “رسالة حربية عاشقة” الى “اللون الرمادي” ومن “جسر المباهج القديمة”، و”ندامى”، الى “للريل وحمد”.
في الذاكرة العربية
يقول الدكتور سعد التميمي: “إننا برحيل النواب طوينا، وطوى الشعر العراقي، صفحة لامعة كبيرة تميزت بالغنى والتجريد والخروج عن المألوف في القوالب الشعرية، فهو الذي عُرف بروح التمرد وكتبَ أجمل القصائد التي عرّت الأنظمة والسياسات المهينة، وناصر الحركات الثورية والتحررية في العالم. كما كتب أجمل القصائد التي تغنى بها المطربون، ولا ننسى (للريل وحمد) وغيرها. شاعر ترك بصمته في الذاكرة العربية قبل الذاكرة العراقية، وهذا ما يميز مظفر النواب، فلم تكن جماهيره مقتصرة على المحلية، بل يتفاعل مع قصائده الجمهور العربي، كما يتفاعل معه الجمهور العراقي. يكاد يكون نموذجاً للمثقف العضوي، إذ لم يكن شاعراً يكتب القصيدة لأجل أن يتغنى بمعانيها وأفكارها، إنه شاعر كان يريد أن يوصل رسالة جمال ورسالة توعية الى الإنسان بشكل عام، مهما كان انتماؤه.”
عاش ومات مثيراً للجدل
عاش النواب مثيراً للجدل، ومات كذلك، فامتزج رثاؤه بعبارت الحب وعبارات الشجب، فبعدما ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بخبر وفاته، ورثته بعبارات الحزن على فقده، بمقاطع من أشعاره التي تغنى بها العراقيون لسنوات، إلا أن هناك من خالفه الرأي لميوله اليسارية الشيوعية، وهناك من نعته بعبارات التطرف الفكري والمذهبي، وهناك من شكك بعقيدته وولائه للعروبة واتهمه بالتناقض.. رغم كل ما بذله من أجل إثبات عشقه وانتمائه للعراق ودعوته لتحرير فلسطين وتحقيق الأمل في نصرة الفقراء والعيش بكرامة.
شاعر الغربة والضياع
فرضت على النواب قصائده السياسية الهجائية أن يكون “شاعر الغربة والضياع” فعاش أربعة عقود طريداً بين المنافي العربية والأجنبية، دأب النواب فيها على تنظيم أمسيات شعرية للجاليات العربية في العواصم الغربية – ولاسيما لندن – حيث ألقى فيها قصائده الكثيرة التي خصصها للقضية الفلسطينية والحث على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، أهمها قصيدته “القدس عروس عروبتكم”.
بعيداً عن الوطن الذي عاش من أجله
بعيداً عن الوطن الذي كتب له قصائده الخالدة، رحل الشاعر مظفر النواب، بعد صراع طويل مع المرض، وغربة استمرت لعقود طوال، لقد كان النواب مناضلاً من أجل الحرية التي دفع بسببها ضرائب كبيرة.
عاد لكنه هذه المرة محمولاً على الأكتاف دون أن يلقي نظرة أخيرة على الوطن.
جنازة كبيرة
في العراق، وما إن أعلن عن وفاة النواب، حتى تحولت مواقع التواصل الاجتماعي في العالم العربي عموماً، وفي العراق خصوصاً، إلى جنازة كبيرة، جنازة توزعت بين محبيه من المثقفين والفنانين ومحبي الشاعر الراحل الذين استبدلوا صورهم الشخصية بصورته، مع نشر قصائده الخالدة على هذه المواقع، في مشهد تحول إلى تشييع افتراضي لشاعر أحب العراق وأحبه العراقيون.
اسطورة خالدة
لم تكن حياة الشاعر مظفر النواب حياة اعتيادية، فهو العراقي المتمرد على النظام، المدافع عن حقوق الفقراء، المطالب بالعدالة الاجتماعية، مواقف جاءت من إيمانه بقدرة المثقف على التغيير، وأدخلته السياسة باكراً كمثقف ناهض الحكومات منذ زمن الملكية، وصولاً الى زمن الديكتاتورية، مواقف دفع أثماناً باهظة مقابلها، وصلت الى فصله من وظيفته في خمسينيات القرن الماضي، وسجنه في ستينياته ، ليدخل مع رفاقه في سجن نقرة السلمان، الذي نقل منه إلى سجن الحلة، وهناك قام بحفر نفق في السجن ليهرب من خلاله مع رفاقه، ويعيش متخفياً في بغداد، ومن هناك غادر إلى أهوار الجنوب. حيث دهش بحياة سكان الأهوار ولهجتهم وشعرهم التي خبرها طوال سكناه هناك، ليكتب قصائده العامية بحداثة وعمق أثرا في كل من قرأها.
هكذا عاش الشاعر ومات، وسيبقى إلى الأبد في وجدان محبيه، صوتاً حقيقياً مدافعاً عن وجودهم وحريتهم التي ناضل من أجلها طويلاً، وموقفاً أصيلاً ضد الطغيان، ومثقفاً لم يهادن السلطة ولم يرتعش من جبروتها طوال عقود.
وبرحيله هوى نجم شعري ليتحول إلى أسطورة ستظل خالدة إلى الأبد في وجدان كل العراقيين الأحرار.