هنا العراق

2٬152

شعر وكتابة: د. حسن عبد راضي – فريق العمل والتصوير: كادر المجلة

البلاد التي لا تموت، مهد التاريخ، وطائر فينيقه.. خزانة أسرار الخلق التي كانت على الدوام مهبطاً للرسالات ومركزاً للعالم القديم، هنا حيث الكتابة والشعر والقوانين، حيث الدولة الأولى في العالم،.. دولةٌ مهيبة أظلت الجهات الأربع بجناحيها الهائلين، هنا حيث حدث الطوفان العظيم، وحيث استوت على الجودي، وحيث بنى الأجداد برج بابل العظيم .. هنا الملاحم والأساطير والأبطال والآلهة، هنا أئمة آل البيت عليهم السلام وأصحاب المذاهب والطرق الصوفية والمعتزلة وإخوان الصفا .. هنا تقريباً خلاصة الحضارة والمجد والمروءة .. باختصار شديد .. هنا العراق.

تبدأ القصة
إذ يدرك جلجامشُ أن الموت وحش
لا يني يحصد أرواح الخليقةْ،
ولقد عذّبَهُ أن يخطفَ الوحشُ بلا حربٍ صديقَهْ،
لم يَعُدْ يَحسُن في عينيه من أوروكَ شيءٌ،
لا عذاراها ولا ديباجها الزاهي
ولا ورد الحديقة،
ولذا قرر أن يهجر دنياه ويمضي،
باحثاً عن عشبة الخلد
وعن لون الحقيقة..

قد يكون جلجامش هذا رجلاً رأى أن (داعش/ خمبابا) قد ابتلع غربي البلاد وشمالها الغربي، وصارت جيوش خفافيشه وغربانه تحلق قريباً من بابل/أوروك / بغداد .. فصار الدم يغلي في عروقه، حتى إذا سمع فتوى الجهاد الكفائي انطلق لا يلوي على شيء، حاملاً روحه على كفيه، أعزل إلا من قلبه الجسور، ليصد ذلك الطوفان الأسود عن حياض أهله، وهكذا كان ..إذ انتصر جلجامش الجيش والحشد الشعبي وجهاز مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية والحشد العشائري على الإرهاب ودحره حتى تحررت أرض العراق واغتسلت بماء طَهور، في حين كانت قوى كبرى وإمبراطوريات لا تغرب عن قواعدها الشمس تتوقع وتتمنى أن تطول تلك الحرب حتى تنهك جسد العراق أكثر.
هل تتذكرون حسين ابن الديوانية الذي أنقذ بضع عائلات موصلية كريمة؟ حسين هذا يشبه جده الإمام الحسين (ع) اسماً ومعنى، فكلاهما خرج ثائراً على ظلم وطالباً الإصلاح،.. عندما لم يجد حسين ابن الديوانية ما يسعف العائلات به من غذاء أو دواء جاءهم ببرتقال كان معه، لكنه استشهد وهو يحاول حمايتهم، وبكى عليه الموصليون وأقاموا له مأتماً في الموصل قبل مأتم أهله في الديوانية.
لقد خرج البطل الأسطوري من بطون الكتب، واستأذن الملاحم مغادراً إياها، حينما وجد كينونته الحقيقية في ملاحمنا نحن العراقيين، وها هو يعيش بيننا، فهو ليس بالضرورة عملاقاً مفتول العضلات يحمل الأسود كأنها قطط بين يديه، بل قد يكون طالباً أسمر نحيفاً من أهالي الناصرية يعيش في بيت طيني، غني في كل شيء إلا المال، غنيٌ بالكرامة والنخوة وعزة النفس والشجاعة ..بطل أسطوري اسمه حسين محسن معيوف مثلاً .. بيته الطيني لم يضمن له حياة مترفة، ولا وسائل راحة ولا دروساً خصوصية، وكان يقطع مسافة 13 كيلومتراً سائراً على قدميه كل يوم ذهاباً إلى مدرسته أو إياباً منها، البطل حسين تفوق في دراسته قاهراً كل تلك الظروف، منتصراً في معركته على “الوحش” وحين جاءته الهدايا والمغانم عفَّ عن التمتع بها، وآثر أن يبني بها مدرسة لأبناء جلدته الأبطال الطينيين، فقراء المال، أغنياء النفس.. هناك جنوباً في مكان قريب من مواطئ أقدام الرسل وبيوت الله وزقوراته.
البطولة لا نهاية لها في العراق .. فالبطل موجود على الدوام بين ظهرانينا، وهو إنسان بسيط في الغالب، ولا يدّعي البطولة ولا يتفاخر بها، لكنه يمارسها حياتياً بلا ضجيج .. فمثلاً عثمان العبيدي كان شاباً بسيطاً كادحاً من أهالي الأعظمية، لكنه حين سمع صريخ زوار الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام وهم يغرقون في أمواج دجلة، لم ينتظر قراراً من أحد إلا من ضميره وعراقيته، فهبَّ لنجدة أخواته وإخوته ينقذهم تباعاً، ليصل بهم إلى برّ الأمان، حتى كَلَّ ساعداه الشريفان، فغرق مع من غرقوا، مضمِّخين شاطئ الأعظمية ودجلتها بأرواحهم الطاهرة هو ومن حاول أن يفتديهم، فتحولت تلك الأرواح إلى رفّ حمائم بيض تحلق بين ضريحَي إمامَي بغداد؛ أسدها موسى الكاظم (ع) وفقيهها أبي حنيفة النعمان (رض).
وأبطال العراق ليسوا رجالاً فقط، النساء لهن بطولاتهن، ولعل لهن بسيدتهن زينب الكبرى بطلة كربلاء أسوة رائعة، فهذه أم جاسم التي تطوعت لتطعم المقاتلين ضد داعش جيشاً وحشداً من خبزها وطعامها الذي كانت تطهوه ممزوجاً بأدعيتها ودموعها، وتلك أميّة الجبارة التي حملت السلاح وقاتلت ببسالة نادرة حتى استشهدت فصارت أيقونة للشجاعة ومفخرة لأهلها وعشيرتها ومدينتها وبلدها كله، وهل يصح أن ننسى أم قصي التي احتضنت عشرات من أولادها جنود سبايكر الذين لجأوا إليها حين غدر بهم الدواعش، فعرّضت حياتها وحياة عائلتها للخطر، وجازفت بنقلهم من تكريت إلى كركوك فاستقبلتهم بطلة أخرى هي أم علي واستطاعتا أن توصلاهم إلى أهاليهم بأمان، فهل من بطولة أكثر تسامياً ونبلاً.
ولئن استمر مسلسل الوهج البطولي العراقي، فإن لذلك صلة بـ”الدم الحار” الذي يجري في عروق العراقيين ويعرف القاصي والداني أنه علامتهم الفارقة، ولعل الميزة ذاتها هي التي حفزتهم أن يثوروا عشرات المرات في تاريخهم الحديث رافضين الاحتلال والظلم والفساد والمعاهدات الاستعمارية، بدءاً من ثورة العشرين مروراً بانتفاضة 1930 ثم ثورة مايس 1941 ووثبة تشرين في 1948 وسواها، وصولاً إلى الانتفاضة الشعبانية عام 1991 ثم قتالهم الشرس ضد الاحتلال الأميركي الأخير للعراق عام 2003، وأخيراً وليس آخراً كل تلك الوثبات الجماهيرية التي عمّت العراق من أقصاه إلى أقصاه في 2015 انتهاءً إلى لحظتنا الحاضرة، إذ أثبت العراقيون أنهم أباة الضيم، فإذا سكتوا على ظلم فإنما يسكتون حِلماً، لكنهم يهبّون إعصاراً إذا نفد صبرهم وحِلمهم.
الأبطال هنا – ويا للمفارقة- قد يكون أحدهم متظاهراً ..شاباً لم ينبت شاربه بعد، يخرج ليعبّر عن رفضه للفساد والمحاصصة في مؤسسات الدولة، وليطالب بحقه في فرص العمل والتعليم والصحة وغيرها من الحقوق الأساسية، ويكون والده منتسباً في الشرطة أو في جهاز مكافحة الشغب، يلتقيان بمحض الصدفة في المظاهرة، الولد بزيّه المدني الشبابي في صف الوطن، والأب بزيّه العسكري في صفّه الآخر، فيتعانقان عناقاً مضرجاً بالدموع، ليختصرا مسافة الوجع العراقي إلى حدها الأدنى حين يغفو الولد على حجر أبيه في لقطة لن تتكرر في أي مكان آخر من العالم.
ماذا عن سائقي التكاتك؟ من أية بطولة ونكران ذات جاءت هذه الكائنات؟ كنّا إلى وقت قريب نضيق بالتكاتك ذرعاً وهي تتسابق تحت عجلات السيارات، ويمر بها سائقوها بتهور ملحوظ في المساحات الضيقة بين صفوف السيارات، أو يأتون عكس اتجاه السير، ولا سيما في مناطق الرصافة، فكيف تحولت هذه الآلات الطنّانة إلى ما يشبه عربات آشورية من تلك التي تحفل بصورها المنقوشة في الحجر آثارُ العراق ومتاحفه؟ لكن لا.. فللعربة وظيفة واحدة أو وظيفتان، حمل الملك الآشوري في موكبه أثناء السلم وأوقات الصيد، أو تتحول إلى مركبة حربية في أوقات المعارك، أما التوك توك فقد تحول إلى أشياء كثيرة، فهو وسيلة نقل المتظاهرين من ساحات التظاهر وإليها، وهو سيارة إسعاف صغيرة تُخلي المصابين والجرحى إلى حيث يتلقون العلاج، وهو وسيلة نقل الطعام والماء لمن يحتاجونه من المتظاهرين، وهو أيضاً مركبة الفرح التي تتجول هازئة بالازدحامات وقد رفعت أعلام العراق وعزفت نشيده الوطني.
الإصلاح ليس قضية يحتكرها شباب الوطن، فلقد كان للشيوخ حضورهم المميز، إنهم ملح هذه الأرض، وحكمة أجيالها، وجودهم بين أبنائهم وأحفادهم يعطي ساحات التظاهر وقاراً يوازن فوران الشباب وطاقتهم المتدفقة، كما أنهم يحاولون جهد إمكانهم أن يضبطوا إيقاع الجموع فلا تنفلت متشظية على نفسها، إنهم الجزء الرصين من ضمير التظاهرة ووعيها الحي.
المطعم التركي
بناية كأية بناية أخرى، هيكل خالٍ من الأحشاء، يقف عمودياً أشبه ما يكون برقيم طيني مليء بالنقوش البارزة (الريليفات)، أو مسلة عملاقة نسيها حمورابي في إحدى جولاته شرقاً، لكنها اليوم تحتفي بالشباب الذين ملأوا جنباتها وطبقاتها الأربع عشرة، فقد ضاقت بهم الشوارع والساحات فانبرت تلك البناية لترحب بهم في فضاءاتها وتمنحهم فسحة للتعبير عن رأيهم من علٍ. قد يكون ثمة مطعم تركي او مطاعم تركية في أية مدينة عربية أو أجنبية، ليست لها القوة الرمزية لهذا المكان، أما هذه البناية التي لا وجود لمطعم فيها حالياً، تركياً كان أم غير تركي، فإنها قد أمست أيقونة للاحتجاج، جزءاً من هايد بارك عراقي له تضاريسه الخاصة المختلفة.
نساء التحرير
النساء في ساحة التحرير لسن زينة أو إكسسواراً يكمل المشهد، هنّ لبنة أساسية فيه، ناشطات في التظاهر ورفع شعارات الإصلاح ومحاربة الفساد، أو طبيبات وممرضات يساعدن كل من يحتاج مساعدة طبية، أو حاملات أكياس القمامة والمكانس ينظفن قلوب الناس بابتساماتهن قبل الشوارع والطرقات، هنَّ أخوات المحتجين وأمهاتهم ويتصرفن على هذا الأساس، ينقل أحد المدونين أنه مر على طريق كانت إحدى الفتيات ما زالت تعمل في تنظيفه، وفجأة قالت له بنبرةٍ آمرة: بعد لا تفوتون منا ..هستوني كانسة الكاع وماسحتها!!
فما كان منه إلا أن ردّ عليها: لعد وين نولّي؟
الخاتمة – البداية
شهدتُ وشهد كثيرون مثلي مظاهرات عام 2015، وكانت تلك المظاهرات تنتهي وينتهي فعلها فور انفضاضها ليلاً، وتعود الأمور سيرتها الأولى، لا تأثير سياسياً لها في الواقع، ولا انعكاس لها في الحياة، اليوم أكاد أجزم أن ثمة ما يتغير في الحياة، وثمة من يصحو وكأنه كان في غيبوبة، يصل المرء إلى إشارة مرور فيجدها تعمل بنحو صحيح، وشرطة المرور يتابعون عملهم في مراقبة السيارات ومدى التزامها بالقوانين، الحكومة أعلنت عن حزمة إصلاحات، والبرلمان سارع في تشريع القوانين التي ظلت معطلة طويلاً، وأصدر قرارات تبدو حتى الآن إيجابية، منها تقليص الامتيازات المالية للنواب والوزراء والدرجات الخاصة، ورفع الحدود الدنيا لرواتب المتقاعدين وتقليص السن القانوني للتقاعد .. ثمة ما يحدث حقاً،.. فعلٌ بطولي فذٌ هو ما أنتج كل هذا التغيير .. البطولة لم تعد حبيسة الكتب .. إنها هنا بيننا تمشي على قدمين.