إسماعيل البلّام.. سَمَكَةُ المتنبي المنقذةُ للأرواح

1٬213

ذوالفقار يوسف /

تتنفس الحياة برونقها مرة أخرى لأسباب قد لانراها، يزدهر فيها ربيع فتى لايشبهه موسم آخر، اذ يبدو بنشاطه وخطواته في كل مرة على نحو أجمل، إنه الراعي في بوابة المراسي المظلمة، يترقب ميادين الانزلاق، ويحارب ثقل الجفون لينبذ كل مظاهر الموت.
مجلة (الشبكة العراقية) التقت المنقذ الغوّاص إسماعيل عمر.
إسماعيل عمر الملقب بـ(اسماعيل البلام) و (سمكة المتنبي) صاحب عبّارة (قمر بغداد) التي ترسو على نهر دجلة، وبالتحديد على الضفة المحاذية لشارع لمتنبي، حكم علينا العمل على تحقيق لقاء بهذا البطل ومنجزه، بسبب قرار الحكومة إيقاف عبّارته عن العمل، ولأسباب مجهولة، مكتفين بالقول إننا لانريد أن تتكرر حادثة عبّارة الموصل، قائد العبّارة كابتن لمدة لاتقل عن الـ(30 عاماً)، محترف في قيادة العبّارات والزوارق التي تنقل من يريد العبور الى الضفة الاخرى من النهر، وأحياناً أخرى للاستمتاع بهدوئه، تعلّم السباحة والغوص وهو في عمر الثالثة عشرة، بعد أن علمه والده الذي كان واحداً من خيرة السباحين والغواصين آنذاك. لم يكتف بهذا فقط، فقد اضطلع بهذه المهمة الإنسانية لينقلها الى الشباب الذين يعملون في عبّارته. اسماعيل ذو الـ43 ربيعاً، ينقل لنا رسالة انسانية في الحفاظ على حياة الناس، بمسيرة عفوية ينبذ فيها كل اسباب الموت، ليجعل من بطولاته سبباً في انقاذ من طوقتهم أذرع النهر لتجذبهم نحو القاع.
غيرةُ الأبطال
لم يتعلم فنون السباحة والغوص فقط، بل تعلم الاحتراف بإنقاذ كل من يطلب المساعدة، ولأن والده كان من منتسبي الشرطة النهرية، اكتسب منه الغيرة العراقية التي نعهدها، ولكن هذه المرة في أحضان نهر دجلة، وعلى الرغم من عدم انتساب اسماعيل البلام الى سلك الشرطة النهرية، التي من أولويات عملها إنقاذ الأشخاص وحفظ الأمن على أطراف ضفتي نهري دجلة والفرات، إلا أنه لم يتوقف عن مد يد العون لإخوته من منتسبي النجدة، بل وقد أجاد عملهم، فعمله في العبّارة والزوارق جعله واحداً من المراقبين الاوائل لما يحصل على طول النهر الذي يسلكه بزوارقه وعبّارته، وعشقه للمرسى والنهر جعله يفضل أن يرتاد النهر حتى بعد نهاية عمله في آخر النهار.
مُصارع الأمواج
العديد من الشهادات التقديرية زينت مرسى عبّارة (قمر بغداد)، التي نالها اسماعيل من ضمنها وسام القوة الذي يجعله يواصل مصارعة أمواج نهر دجلة بلا تردد، فقد أنقذ بساعديه العديد من الأشخاص الذين سحبتهم تلك الأمواج، فمنهم من حاول الانتحار ومنهم من يكون في حالة إغماء بسبب شربه المفرط للكحول، ما يتسبب بسقوطه في النهر، إلا أن البطل المراقب تظل عيناه ترنوان الى مدى تلك الأماكن التي تكثر فيها هذه الحالات، فتارة يراهم وأخرى يشعر بهم، وأحياناً أخرى بقراءته للوجوه التي يملؤها اليأس وتحاول إنهاء حياتها.
المقدام لا يسقط
صور موثقة ومقاطع فيديو من قبل اسماعيل وزملائه، نشاهد فيها كل عملية يقوم بها لإنقاذ شخص يحاول القفز من الجسر نحو النهر، لم يكن اسماعيل من محبي التظاهر بالبطولة، إلا أن خوفه من المساءلة لكونه انساناً مدنياً وغير منتسب الى أية جهة، وايضاً خوفه من المشاكل التي تعقب عملية الإنقاذ من قبل ذوي المقدمين على الانتحار، فمنهم من يقول له إن “ابنه ما يريد ينتحر واحد دفعه من فوك الجسر”، وآخرون يتهمون اسماعيل نفسه بمحاولة القتل، ما يجعله يزودهم بمقطع فيديو يوضح محاولة الانتحار، ومقطع آخر يظهر فيه اسماعيل وهو يحاول إنقاذه وانتشاله من النهر، أما عن مدى جاهزية هذا المقدام فقد سجل العديد من حالات الإنقاذ ولمدة عشرين عاماً، وبحمد الله لم يسقط أبداً في واحدة منها.
“وطني مُلهمي”
تناقلت الأخبار كل إنقاذ يقوم به اسماعيل البلام، خصوصاً في الآونة الأخيرة التي نشاهد فيها جزع العديد من الشباب لاسباب مختلفة بينها الفقر وشعورهم بان الحياة ادارت ظهرها لهم وجعلتهم يتوجهون الى مسيرة الموت، فقرروا انهاء وجودهم في هذه الدنيا، فلم يجدوا غير النهر هو الرفيق الأخير لأرواحهم اليائسة، لكنهم لم يكونوا يعرفون ماينتظرهم هناك، فالمنقذ لم تغفُ عيناه ما دامت الحياة تتنفس بالناس، يتلقفهم البطل بساعديه وهو يقود أحد زوارقه الذي زوده بماكنة لا تصدر صوتاً حتى لايخيف المقدمين على الانتحار، موضحاً “أنه بالرغم من أن التعليمات التي أوقفت عبّارتي عن العمل منذ أربعة أشهر، بسبب حادثة عبّارة الموصل، إلا أن الإنسان هو الوطن بحد ذاته، وأن الإلهام الذي يجعلني استمر هو خوفي على هذا الوطن أن لايتنفس مرة اخرى.”
حزن الحياة
كمحبّ للحياة واستمراها، وراعٍ لمصطلح اللا استسلام، يواجه إسماعيل في بعض الأحيان وجه الموت الآخر، فهو ساعد الحياة في تلك البقعة قبل أن تنتهي، أما بعد انتهائها مسبقاً فهذا ما يحزنه، تلك المتمثلة بجثث الغرقى التي جرفها النهر أمام مرأى عينيه، لم يكتف بمشاهدة تلك النهاية، فحسب مايقول “للموتى علينا حق كما للأحياء”، اذ لابد من أن يقوم ذووهم بتكريمهم بدفنهم، مهما كانت أسباب موتهم، فتراه ينتشلهم باحترام ووقار، بعضهم أناس قد يئسوا من الحياة، والبعض الآخر قد قتلتهم أيدي الغدر، وآخرون قد مسّتهم أذرع الإرهاب الداعشي، وقد جرفتهم أمهم دجلة، لكي يقعوا في أحضان إخوتهم ليعودوا الى التراب مرة اخرى، فالنهر لم يكن في أحد الأيام مكاناً يليق بمواراة تلك الأجساد، اذ بعد كل حالة انتشال اسماعيل لجثة شخص ما يحاور نفسه بأبيات الحزن لأبي العتاهية:
“كمْ منْ عزيزٍ عظيمِ الشَّأْنِ فِي جَدَثٍ”
وقد حال الحزن أن يكمل البيت الشعري كما هو وقال:
“غريقاً بنهر دجلة قد التحف”.