نذير معيوف.. حملة الاصرار والصبر

1٬415

آية منصور /

“أنا لا أعرف ما إذا كان لكل منا مصيره، أو إذا كنا جميعاً عائمين مثل نوبة عرضية لكني أعتقد أن كلا الأمرين صحيحان”.
لربما لخصت هذه العبارة التي وردت في حوارات الفيلم المدهش فورست غامب كل مصائرنا مجتمعة، نحن الواقفين فوق مياه أرواحنا بكثافة وثقل حياتنا، بحثاً عن مصير مشترك، نُطمئِن به أنفسنا، وأن نبدو ورغم اختلافنا، أشخاصاً متساوين، أقلها، في التعامل، والابتسامة، ورد السلام..
هذه الفكرة التي جعلت السيد نذير معيوف، يفكر مليا وهو يشاهد ابنه الصغير يوسف، المصاب بالتوحد، يُعامَل على نحو مختلف، وأجبرته على تغيير حياته جذرياً، لقول شيء للعالم: إن المصاب بالتوحد، يشبهنا، ويستحق الحب مثلنا.
رحلة الاصرار والصبر
نذير معيوف أب لطفل متوحد ويعاني أيضاً من فرط الحركة، يبلغ من العمر ثماني سنوات، أسس معيوف حملة باسم رحلة الاصرار والصبر، وتبناها ليكون صوت جميع المصابين بالتوحد وعوائلهم داخل العراق، نتيجة التهميش والاهمال الذي يلوّحهم مثل ضربة شمس قاسية، يخبرنا السيد نذير عن حملته قائلاً:
– أصبح مصابو التوحد في العراق مهملين على نحو مأساوي، لا راعي لهم، ولا اماكنَ تحتويهم او توفر لهم العلاج، لقد تخيلت ما يحدث للعائلات التي لديها شخص مصاب بالتوحد وهي تصارع من أجل حياة ابنها، وأدماجه في المجتمع. لقد كان الامر بمثابة معركة في رأسي لإيصال قصصهم الى الضفة الأخرى من الحياة، حيث المجتمع الذي لا يعلم بما يحصل لمصابي التوحد.
الحملة التطوعية الجوالة
وتدور فكرة الحملة التي يتبناها السيد نذير معيوف، حول التنقل في مختلف المحافظات والمدن العراقية، من أجل التعريف بمرض التوحد، وتقديم الندوات كافة للحديث عن المصابين وعائلاتهم، وكيفية التعامل معهم، وكسب التأييد المجتمعي والمحاولة بكل الطرق أن يكون المجتمع داعماً للمتوحد لا طارداً له، وهي حملة تطوعية إنسانية، يجمع السيد نذير تكاليفها بنفسه، يواصل حديثه قائلاً:
– اقوم بعمل مخطط بين الاسبوع والآخر، لطباعة القصاصات الورقية التي تعني بالتوحد، والتواصل مع مختلف وجهاء المدن، لتقديم الندوات والحديث عن هذا المرض، في بعض الاحيان اضطر للتوقف مؤقتاً للاستمرار برعاية ابني.
السيد نذير، الذي عمل أكثر من 15 سنة في سلك التدريس، استاذا للتربية الفنية، ترك عمله من اجل التفرغ لرعاية ابنه، وترك ايضاً مدينته بغداد، لينتقل الى محافظة الديوانية، واستأجر شقة صغيرة ضغطاً للنفقات لكنها تكفي لرعاية ابنه، وتمكنه من توفير تكاليف رعاية ابنه وإدارة حملته، يحدثنا:
– نتيجة تفرغي التام لاعالة ولدي، قُطع اكثر من نصف راتبي، الامر الذي جعلني أعمل بدوام جزئي سائقاً أجيراً بسيارة تكسي يملكها صديق.
المتوحد ليس وحشاً
حادثة صغيرة هي التي قدحت في ذهني فكرة الحملة، ورغم انها ليست الاولى مع السيد معيوف وصغيره، لكنها اثرت كثيراً به، يسردها لنا قائلاً:
– حاول صغيري يوسف الاقتراب من سيدة للضحك واللعب معها، لأنه اجتماعي وينجذب أحياناً الى اناس دون غيرهم، لكن رد فعل السيدة كان متخوفاً جداً ونهرته بطريقة قاسية ظانّة انه يريد سرقتها.
أيقن السيد نذير، أن المتوحدين فئة منسية مهملة محاربة من الجميع حسب قوله، المجتمع، والمؤسسات، وحتى الجهات المتخصصة، ولاحقوق لهم رغم انهم يشكلون الرقم الاكبر في العراق من حيث القضايا التي تدخل ضمن فئة ذوي الهمم .
– ربما لإني اتمتع بشيء من الجرأة، فاستطيع الخروج مع ابني ليرافقني في الاسواق وغيرها، لكن كثيراً من الاهالي يحرجون من أولادهم المتوحدين بسبب المجتمع وأيضاً بسبب التصرفات وردود الافعال غير المتوقعه للمتوحد نفسه، هذا ما احاول فعله في حملتي، إدماج المتوحد في المجتمع.
قصاصات وأحاديث توعوية، في الشارع
تمكن السيد نذير في ثلاثة أشهر من إطلاق حملته، زار النجف وكربلاء ووزع على المارة في الشوارع لتوزيع القصاصات المعنية بالتوحد حيث فعن اولى جولاته يحدثنا قائلاً:
– الانطلاقة الاولى كانت في مدينة الديوانية، حملت لافتتي واخترتُ مكاناً فضلتُ ان يكون مزدحماً لبدء توزيع الاوراق والحديث مع الناس، بعد ذلك قمت بجولات عدة في بغداد ومناطقها وأحيائها.
الفكرة ليست سهلة
وقد يرى البعض ان فكرة السيد نذير بسيطة، أو غير جدية، لكنه يجد ان مجرد الوقوف في الشارع وحث المجتمع لتقبل مصابي التوحد، هي معركة قائمة بذاتها، يجب ان تنتهي بانتصاره، اذ أخذ على عاتقه، نشر الوعي بين الناس عن هذا المرض.
– يقف معي كثير من ذوي مصابي التوحد في الشارع، ونتحدث كثيراً، بعضهم يطلب مني الاستشارات وكيفية التعامل، اذ ان معاملة مصاب التوحد تستلزم جهداً مضاعفاً خمس مرات عن الطفل الطبيعي، كما انهم يخبرونني عن معاناتهم ورفض المجتمع لصغارهم.
مناشدات لا تنتهي
قدم السيد معيوف طلباً لوزارة التربية، من أجل عمل تعاون مشترك يمنحه فرصة التجوال داخل اروقة المدارس للحديث عن التوحد، وأمام الطلبة ومعلميهم، لكونهم الأكثر تماسا واحتكاكاً مع حالات التوحد، دون معرفة آليات التعامل معهم، يقول:
– عقدتُ اجتماعاً مع معلمي التربية الخاصة، ودعوني لتقديم تجربتي، وذلك لأن لديهم صغاراً مصابين بالتوحد، كما شرحت لهم من تجربتي اهم الامور التي تجعل المتوحد مرناً مع غيره، او عصبياً.
امنيات صغيرة
لكنه يستدرك قائلاً “ن التعاون كان ضعيفاً وغير كافٍ، كما ان الامكانيات، غير متوفرة، لمساعدته، ومع هذا، يبقى السيد نذير، الذي يتعامل مع صغيره يوسف، كأي طفل طبيعي، متمسكاً بحلمه، ومستمراً بالتجوال، بين زقاق وآخر، للحديث عن التوحد، ورغم كل المعوقات، وقلة الاهتمام، يخبرنا عما يتمناه بحسرة:
– اتمنى فتح مراكز مساهمة بمساعدة الدولة للمتوحدين، وتشريع قانون يحمي ذوي الاحتيجات لأن المتوحد، ليس ثمة قانون يحميه، وغير مذكور في القوانين العراقية، وأعلم تماماً أن الإهمال سينالهم أكثر وأكثر، لهذا، أنا مستمر في خدمة ولدي، وتوعية المجتمع، وحدي.