آثار تل الأجز تتعرض إلى نهب الحلي والمجوهرات كنوزٌ في المقابر..!

403

يوسف المحسن/ تصوير: باقر الباقري /
مجموعة مدافن تعود إلى العصرين السلوقي والفرثي، بنيت في طبقات لتشكل واحدة من أثمن وأكبر المقابر التاريخية المكتشفة، اللافت فيها أنها تعود إلى أسر حاكمة كانت تضع مع جثامين موتاها الحلي والأدوات الثمينة، إنها آثار تل الأجز التي تحمل رؤية العراقيين القدماء إلى عالم ما بعد الموت.
موقع تل الأجز الأثري واحد من ألف موقعٍ آثاري في محافظة المثنى. يعود تاريخه الى أكثر من حقبة زمنية، وسمي بـ (الأجز) لكثرة القطع الزجاجية والفخارية المصهورة المتروكة على سطحه، التي تعرف شعبياً بـ (الجزيز)، مدافن على شكل طبقات، كل واحدة تتكون من حجرات عدة، استخدمت كقبورٍ متراصة للموتى المنحدرين من الشرائح الغنية ذات النفوذ، الذين لم يكونوا ليدفنوا في مقابر العامة من الناس.
عن موقعه، يقول الأستاذ الدكتور نعيم عودة إن “تل الأجز يقع شمالي مدينة السماوة بمسافة 35 كم، والى الشرق من مدينة الرميثة بمسافة 19كم، ضمن الحدود الإدارية لقضاء الوركاء، إذ يرتبط بمدينة أوروك التاريخية، كما أنه يقع على نهر النيل القديم، الذي يعتقد أنه فرع من نهر (الأوترنكال) المتشعب من نهر الفرات.” يضيف الدكتور عودة، وهو تدريسي في جامعة المثنى عرِف بمساهمات علمية واسعة: “وردت الإشارة الى كلمة المدفن في النصوص السومرية بصيغة (KI- MAH) او ( KI-KI-MAH) على أنها الأرض المرتفعة في المدينة التي اتخذت مكاناً لدفن الموتى، كما ورد المصطلح (KI –MAH ) للدلالة على المدفن في لائحة اصلاحات الملك أورو- انمكينا 2355ق.م إذ ذكر فيها (ADDKI – MAH¯E Tvm) وتعني من أجل دفن جثة في المقبرة، كما جاءت كلمة (Kimahhu) الأكدية في النصوص بمعنى القبر او الضريح، فضلاً عن المصطلحين الأكديين(hurru- ®uttu) وكلاهما يعني حفرة، وقد استخدمتا للدلالة على معنى القبر والمدفن أيضاً.”
عمليات نهب وهدم
تعرضت الآثار العراقية، طوال عقود، إلى حملات سرقة واسعة يعتقد أنها أسفرت عن تهريب الآلاف من القطع التاريخية التي تحكي قصة الإنسانية وانطلاقتها من وادي الرافدين. وسبق لفريق (الشبكة) أن زار الموقع قبل أعوام، واستمع إلى شهادات من السكان المحليين عن عمليات نبش عشوائية، كانت غالبيتها تجرى في ساعات الليل من قبل سراق الآثار والباحثين عن المقتنيات والحلي المدفونة، خمس وتسعون بالمئة من اللقى الأثرية في التل الأثري ربما تكون تعرضت لأضرار وعمليات منظّمة قام بها متاجرون بالآثار، ما تسبب في خسائر فادحة، وهذه النسبة قد تكون أكبر لأن الموقع الذي نهب لم تتوفر عنه بيانات سابقة، لكن الواضح أن الأضرار تفوق الوصف.
تقول مفتشة آثار المثنى، إيثار قاسم مشكور، إن “عمليات النهب توقفت بعد سلسلة إجراءات اتخذتها الجهات المعنية.” قاسم أشارت الى أن الموقع هو صرح نفيس في غاية الأهمية، “ذلك لأن التلول الأثرية -بشكل عام- تنحدر من حقب تاريخية متباينة ومهمة، مثل السومرية والفرثية والإسلامية والساسانية.” وأضافت: “في العام 2008 شرعت فرق تنقيبية تابعة إلى وزارة الثقافة، بقيادة الخبير الآثاري علي عبيد شلغم بأعمال التنقيب في تل الأجز، والنتائج واللقى التي وصلت الفرق إليها كانت على درجة كبيرة من الأهمية، والتل اليوم من بين المواقع الآثارية البارزة في العراق التي تعكس حضارة بلاد ما بين النهرين.”
وبحسب الدكتور نعيم عودة، فإن العمل التنقيبي استمر لثلاثة مواسم، والأسباب الموجبة للتنقيب هي أعمال النبش والتخريب من قبل سراق الآثار قبل سقوط النظام في العام 2003 وبعده، وكان العام 1935 قد شهد الإعلان عن أثرية هذا الموقع في جريدة الوقائع العراقية بتسلسل 1465، مشيراً إلى أن مساحة الموقع تبلغ 28 دونماً بامتدادات واسعة كشفت عن مقبرة كبيرة عدت أول وأكبر مقبرة في العراق ترجع بتاريخها إلى العصرين السلوقي والفرثي.
مدافن لأقوام ذوي شأن
“هذه المدافن هي لأقوام أصحاب شأن،” بهذه العبارة يلخص الدكتور نعيم عودة تصوراته عن هذه المدافن (القبور)، فمن خلال البناء والهدايا المدفنية التي عثر عليها مع الأموات، يمكن تلمس مدى الاهتمام بالمعتقدات الدينية المتمثلة بالحياة ما بعد الموت، وثمة اختلاف واضح في الهدايا الجنائزية، بحسب أهمية الشخص ومنزلته الاجتماعية بين طبقات المجتمع الرافديني، وتحيط بهذه المدافن الجماعية مدافن فردية لعامة الناس، ولعل أهم ما عثر عليه داخلها هي الهدايا الجنائزية، التي كانت عبارة عن فخاريات بأنواع وأحجام مختلفة، ودمى وتماثيل فخارية، وغيرها من اللقى المهمة.
ارتبط تخطيط المدافن في العراق القديم، منذ البدء، بعاملين أساسيين كان لهما أعظم الأثر في تصميم مخططات المدافن: أولهما المعتقدات الدينية، وثانيهما الإمكانات البيئية، وتل الأجز لا يختلف كثيراً، فهو عبارة عن مقابر مشيدة بالآجر والجص في سراديب داخل الأرض يكون النزول إليها عن طريق سلالم حجرية.
وتلتقي رسامة الفخار إيثار قاسم مع ما يقوله الدكتور نعيم عن الأهمية التاريخية للموقع من خلال ما عثر عليه داخل المدافن، التي تمثل عصرين تاريخيين مهمين في تاريخ بلاد الرافدين.
نفائس لا مثيل لها
اللقى التاريخية التي عثرت عليها الفرق التنقيبية في تل الأجز شملت أدوات ومستلزمات فخارية وحلي ومجوهرات تجمع بين الفرادة والإتقان الحرفي، وتعكس المكانة الاجتماعية الرفيعة للموتى، إذ حشرت معهم في المدافن. يقول معاون مفتش آثار المثنى كرار علي الخفاجي إن “غالبية اللقى أرسِلت الى المتحف العراقي، حيث أجريت هناك عمليات ترقيمها وفهرستها وإضافتها الى الإرث التاريخي الوطني.” الخفاجي أضاف أن “تماثيل صغيرة ومجسمات وحلياً وخواتم وأختاماً وصحوناً فخارية بكتابات مسمارية ونقوش كانت من بين ما عثر عليه.”
وعلى الرغم من أن اللقى تعود الى حقب زمنية قديمة، لكنها متأخرة عن مدافن مشابهة في أماكن أخرى من بلاد الرافدين ووادي النيل، سبقتها وفقاً للامتداد الزمني، لكن دقة الصنع والمهارة في عمليات طرق المعادن والتعدين تشير الى عمق زمني يسبق تاريخ بناء المدافن، والأعمال الحرفية والتلوين لا تتكامل بين ليلة وضحاها. عن ذلك يعلق الخبير نعيم عودة: “كانت للإنسان معتقدات دينية وتصورات وأفكار عن الموت وما بعد الموت، وهذا واضح في أساليب الدفن، وما وجد مدفوناً مع الموتى من أوانٍ وآلات وأدوات، وليس غريباً أن نجد تبايناً في الآراء حول البدايات الأولى لمعتقدات عالم ما بعد الموت، هذا التباين ناجم عن التفسيرات المختلفة المقدمة من الباحثين في إطار الاستنتاج والتخمين.”
نص مسماري وفلسفة دفن الحلي
من الواضح أن مدافن تل الأجز كانت تعود إلى أسر او شرائح مجتمعية معينة، ويمكن القول إن العراقيين القدماء والفراعنة يشتركون، الى جانب أقوام أخرى جاءت بعدهم، بحياة ما بعد الموت وإنهم يعدون القبور شكلاً من أشكال المنازل الأبدية، وهم لأجل ذلك يزودونها بما يحتاجه الميت في حياة أخرى انتقل إليها، وغالباً ما يضعون الأشياء التي كان يحبها، او يفضلها، فالروح عند الإنسان القديم كانت تعود الى جسدها لتبدأ رحلة جديدة. يشير الدكتور عودة إلى ذلك، مؤكداً حرص العراقيين القدماء على دفن ملوكهم في مقابر تليق بمكانتهم، شأنهم في ذلك شأن قدماء المصريين، وإن كانت المدافن الملكية العراقية لا ترقى في الإتقان المعماري الى مدافن الفراعنة، إلا أنها مجهزة بكل ما يحتاجه الملك في العالم الآخر. ويضيف: “نقرأ في نص مسماري، يعود تأريخه الى العصر الآشوري الحديث، وصفاً دقيقاً لعملية الدفن التي جرت لأحد الملوك الآشوريين: “في القبر، المكان المظلم، على الأرض الملكية، جعلته يرتاح جيداً، التابوت الحجري، الحفرة من أجل تغطيته، ختمت فتحته (باب القبر) ببرونز قوي، ووضعت تعويذته، ووضعت تجهيزات من الذهب والفضة مناسبة للقبر، وشارة السلطة التي أحبها ـ والدي ـ عرضتها لضوء الشمس ووضعت كل ذلك في القبر مع أبي الذي أنجبني.”
من خلال النص المسماري نستقرئ المكانة الاجتماعية التي كان عليها الملك، لذا وضعت معه التجهيزات التي يحتاج إليها في العالم السفلي، او حياة عالم ما بعد الموت، ومن بين هذه التجهيزات الحلي من الذهب والفضة التي كانوا يؤمنون، وفقاً للمعتقد الديني الرافديني، بأن الميت يحتاجها، وعليه ـ والكلام لعودة ـ نستطيع القول إن كل شخص تكون أدوات الدفن المرفقة معه بحسب مكانته الشخصية ومركزه الاجتماعي.
مواقع التراث موارد اقتصادية وثقافية
من بين ألف موقع أثري في محافظة المثنى، رصدتها وزارة الثقافة والسياحة والآثار، واعلنت عنها مديرة الآثار إيثار قاسم مشكور، تمتد إدارة مفتشية الآثار إلى ثلاثمئة منها، فيما البقية مازالت بانتظار إكمال الإجراءات لإعلانها محميات تاريخية وثقافية، مواقع تعود الى حقب زمنية مختلفة، وحضارات تعاقبت على هذه الأرض التي شهدت الاختراعات والاكتشافات الأولى للكتابة ونظم الري والعجلة والتشريعات.
يلعب الاستثمار السياحي دوراً ستراتيجياً ويشكل مصدراً لتنمية القطاع السياحي لما يحققه من منافع اقتصادية واجتماعية وثقافية للدولة السياحية، لذلك ينحاز الدكتور نعيم عودة الى إدراج الاستثمار السياحي كأحد المستجدات الجوهرية والمجالات الخصبة ضمن أطر وأساليب السعي للنهوض والارتقاء بقطاعها السياحي، إذ يقول: “يمكن الاستثمار في الموارد الثقافية (مواقع التراث والتاريخ)، من خلال تشجيع وتنظيم المهرجانات الثقافية والمحافظة على الآثار وفتح المناطق الأثرية أمام القطاعين العام والخاص للاستثمار فيها. وتل الأجز الذي يضم أكبر مقبرة، يصلح لمثل هذه الفعاليات.”