أسرار دفينة تحت الماء! مجلة “الشبكة” تدخل كهف “كوسكير “
تحقيق وتصوير / ميساء فاضل فرنسا/
تُحفّة آركيولوجية مغلفة بغموضِ مارسيليا الفاتنة وسحر ربّات الخلائق، جدرانهُ مُزخرفة بحكايات حياة تنفست الحُبّ من تحت الماء، وذكريات زمنٍ خام لملم حقائبه وأغلق باب العمر دون عودة، يعود مولده إلى ما قبل التاريخ، كما تدل لوحاته ونقوشه، حين عاش سكانه بأمانٍ تحت الأرض، وتعمدوا بطينها الحُريّ بعيداً عن حيل تكنولوجيا العصور المُعلبة ودهاء منظومات الذكاء الاصطناعي.
إنه كهف “كوسكير” الفرنسي، الذي يقع على الواجهة البحرية بالقرب من ميناء مرسيليا القديم، وبجانب متحف حضارات أوروبا والبحر الأبيض المتوسط، وما بين حصن سان جان وكاتدرائية مرسيليا، حيث يعيش بأعجوبة في أعماق بحر خلّاب وما يحيط به من أنتيكات معمارية. يشتهر بكونه المكان الوحيد في العالم الذي يتضمن الفن البحري تحت الماء في عصور ما قبل التاريخ ولا يزال ثابتاً يصارع البقاء، لذلك فإن علماء الجيولوجيا في صراعٍ مع الزمن لإنقاذ خلوده الجميل من مخالب المناخ ولعنات التلوث.
الحياة من تحت الماء
عند الدخول إلى الكهف الغريب الذي لم تمسه يد بشرية منذ أكثر من 20 ألف سنة، ويعتبر أكثر الكهوف المغمورة غموضاً في العالم، سيكون أمامك مصعد يأخذك إلى تحت سطح البحر بعمق 37 متراً، ويتيح لزائر هذا الكهف، وهو جالس على رصيف متنقل في محطة تحت الماء، أن يكتشف مساحة 1750 متراً مربعاً داخل الكهف لمدة 35 دقيقة، مع دليل صوتي متاح بلغات عدة مع سماعة الرأس لشرح الرسومات والعمق وتاريخ الاكتشاف، وأيضاً لرؤية أصغر الزوايا والشقوق وكل شيء يتعلق به، مع إمكانية الغوص تحت الماء واكتشافه بمعدات الغوص التي من خلالها اكتشف الكهف قبل أكثر من ثلاثين عاماً. كمل يعرض فلم وثائقي عن استكشاف الكهف ولا يسمح بإدخال الكاميرات أو الهواتف للتصوير للمحافظة عليه من الخطر، بالإضافة إلى وجود معرض في نفس البناية في الطابق الأعلى، حيث تمتلئ مساحات المعرض بأصناف عديدة من الحيوانات الثديية المحشوة، منها الجاموس الضخم والحصان والغزلان والبطاريق وأشكال البشر الذين عاشوا في الكهف، وأيضاً القوارب والحلي والأدوات المستخدمة في النقش والصيد، التي وجدت عند تنقلهم وسفرهم مع الحيوانات مئات الأميال، وجدت قبالة شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وتعتبر هذه المجسمات نسخة مماثلة ومحاكاة حقيقية للكهف الموجود تحت الماء، حيث جسدت هذه المجسمات من قبل حرفيين مختصين عملوا على استنساخ صور مماثلة لما هو موجود في الكهف من خلال تقنية المسح الرقمي ثلاثي الأبعاد والمشابه للكهف الأصلي.
كيف بدأت الحكاية
على الرغم من أن أربعة أخماس الكهف، التي تتضمن الفن الصخري، قد فُقدت أو غُمرت عن غير قصد بسبب مرور الوقت وقسوته، إلّا أن حيطانه لا تزال منقوشة بجمالية حياة مائية لم يسبق لها مثيل، ويعود تاريخ اكتشافه إلى الغطاس (هنري كوسكير) في سنة 1985م الذي سُمي الكهف باسمه، الذي زاره مرات عدة وأمضى سنوات في استكشاف الكهوف تحت الماء على طول ساحل البحر المتوسط في فرنسا، قبل أن يكتشف في النهاية هذا الكهف الذي ألهم هذا المتحف. وتقع تلك التحفُة الاثرية في قلب حديقة (كالانك) الوطنية في مرسيليا على عمق 37 متراً تحت مستوى سطح البحر، وبطول 150 متراً تحت سلسلة جبال بين مارسيليا وكاسيس، ويعود زمنهُ إلى ما قبل التاريخ، ويشرح هذا الكهف مدى علاقة الإنسان القديم بالبحر في العصر الحجري، ورسمة الحياة البرية في موطنه.
كنز يهدده المناخ!
تم تصنيف الكهف في الثاني من سبتمبر/ أيلول عام 1992 كواحد من المعالم التاريخية العريقة والموثقة آركيولوجياً، باعتبار أن جدرانه تحكي وتؤرشف القصص القديمة كأثر فريد للفن الصخري وتبيان النقوش الفنية الصخرية في الكهف، حيث طرزت جدران الكهف بأكثر من 500 رسمة متنوعة للحيوانات، منها البحرية، وتلك التي تعيش على اليابسة، ومنها طيور البطريق وطيور البيسون والسلطعون والخيول الصغيرة والثيران، و200 رسمة حيوانية أخرى، و70 بصمة يد للأطفال برفقة الكبار البالغين أثناء مرورهم عبر الكهف. ما يعتبر دليلاً دامغاً على وجودهم في ذلك العصر، علماً بأن الكهف ظل في منأى عن النشاط البشري لما يقرب من ٢٠ ألف عام، لكنه يواجه اليوم خطراً حقيقياً بسبب التغييرات المناخية وتلوث مياه المتوسط بالمخلفات البلاستيكية، الأمر الذي يهدد الفنون الأثرية والكنوز التي يحتضنها بالتلف أو الانجراف، لذلك فإن الدولة والمحبين في سباق مع الزمن لإنقاذ كهف كوسكيرت تحت الماء، الذي يعود تاريخه إلى 33000 عام!