اركن مهارتك جانباً التافهون يتصدرون المشهد!

667

أياد السعيدي/

قبل أكثر من قرن شخص الأديب أنطون تشيخوف سبب فشل المجتمعات بقوله :”في المجتمعات الفاشلة ثمة ألف أحمق وألف كلمة خرقاء إزاء كل كلمة واعية، فإذا رأيت الموضوعات التافهة تعلو على الكلام الواعي، ويتصدر التافهون المشهد، فأنت تتحدث عن مجتمع فاشل جداً.” قد تكون هذه العبارات أقرب وصف لما يحدث اليوم في غالبية المجتمعات التي يغلب عليها انتشار قشور (التقانة) على عمق الوعي .
تفسر ظاهرة تفاهة المحتوى المنتج، المقدم للجمهور بقالب حديث يُدعى وسائل التواصل والنشر، المتاح لكل الشعوب بفئاتها العمرية المختلفة وشرائحها الثقافية ومستوياتها من الوعي، أفراداً ومجتمعات، وبممازجة تلك الآراء مع ما قاله تشيخوف سنقع على خلطة معقّدة وشائكة تبدأ بالتفاهة ولا تنتهي إلا بدراسة الظاهرة ووضع الحلول للارتقاء بمستوى أداء صانعي المحتوى، وبالأخص (اليوتيوبرز) وناشري (الفيسبوك)، لكن بخطوة تسبق كل هذا، وهي أن يعي المتابعون الذين هم المحرك والمشجع الأول لصناعة هذه التفاهات والمحتويات الهابطة.. كيف؟
قد لا يعلم غالبية المعلّقين على منشور تافه أن تعليقهم، مهما كان بالضد من المنشور، فسيرفع من درجة مقبوليته وسرعة وسعة انتشاره، فهذه هي قوانين وسائل التواصل الحديثة، فماكنتها لن تقرأ ألوف التعليقات على كل منشور، فما بالك بملايين المنشورات في كل العالم ضمن الشبكة نفسها؟! إن على من يتصدى لمسؤولية التوعية في هذا المجال أن يضع في حساباته هذه الضوابط الإلكترونية التي تغيب عن معلومات بعض المهتمين، أو ربما الأغلب الذي ينتقد المحتوى الهابط، لكنه بلا وعي منه يكتب نقده أو يرسل الفيديو أو المنشور الى صديقه لغرض السخرية أو الانتقاد والتهكم، ولا يعلم أنه بفعلته هذه يرفع رصيد المنشور التافه، لذا فالأجدى وأد المنشور في مهده بإهماله مباشرة، والأفضل تنبيه من يرسله لنا بهذا المعيار التقني المفاضل وإلغاء صاحب المنشور ضمن مجموعة أو صديق يحاول استجداء تعليق على منشور تافه المحتوى لمجرد الضحك أو النقد غير المنتج الذي سيعود بالنفع على صانع المحتوى، وفي الضفة الأخرى يهبط بمستوى ذائقة المراهقين واللاواعين في المجتمع ليخلق رأياً عاماً هابطاً وهدّاماً للقيم والأخلاق على المدى الأبعد.
إن على الواعي والمثقف أن يشيرا على مستخدم وسائل التواصل بهذه المعرفة، وينبّها الجيل إلى أن صانع المحتوى إذا كان ذكياً فإن مقابل ذلك الذكاء غبي بالتأكيد انجرّ في اللاوعي إلى التعليق له، وإن كان قد استغفل البعض فإن هناك ساذجاً. إذن هي عملية استخفاف بالعقول وبقيم المجتمع، فأين النخبة الواعية من ذلك؟
نماذج هابطة
ضمن مهنية الصحافة، وطبقاً لمقولة (الصورة تعادل ألف كلمة)، ارتأينا أن نرفق لك -عزيزي القارئ- في هذا العدد، نماذج من منشورات الفيسبوك هابطة المحتوى لتستدل منها على المستوى الثقافي لكاتبها أو ناشرها من خلال لغته وأسلوبه، وأيضاً ستعرف عدد المعلقين الذين استخف الناشر بعقولهم خلال زمن محدد، إذ إن بعضهم حصد عشرات الآلاف من الإعجابات والتعليقات خلال ساعات، وبهذه العملية حصل على رصيد يفوق بمئات الأضعاف رصيد تعليقات وإشارات الإعجاب لمنشور رصين ثقافي أو توعوي اجتماعي أو علمي، ولأمانة ومصداقية النشر، فقد حجبنا اسم الناشر وأبقينا على عدد هذه المتابعات، ولكي تكون الصورة أوضح ونتبين الحقيقة في ما ندّعي، أرفق لكم منشوراً راقياً وتوعوياً بقيت أتابعه يوماً كاملاً لعلّ رصيده يتصاعد ليصل ولو لعتبة نسبة 1% مما أسميناها بالمنشورات الهابطة.. لكن!! أنظر المنشور أدناه :
هوس الترند
ثمة ظاهرة أخرى جديدة، بعد أن زاد عدد الفضائيات بدأت تبحث عن مشاهدات تعوض فيها انحسارها، فاستحدثت برامج جديدة تحت عناوين (الترند) تبث من خلالها المنشورات أو الفيديوات الأعلى مشاهدة، بغض النظر عن محتواها، وهي بهذا تخون رسالتها المجتمعية، ومن باب آخر تؤشر فشلها في إنتاج برامج ذات إبهار وتوعية وفائدة.
جهد فكري
يصف البعض وسائل التواصل الحديثة بأنها نعمة ونقمة حسب تعامل الفرد معها ومدى إفادته منها، وقد تكون العبارة صائبة بعض الشيء إلا أن فسحتها واسعة بين المفردتين، وتحتاج إلى جهد فكري وتوعوي كبير من لدن الواعين والإعلام المهني بالأخص، فالأمية المعاصرة الآن ليست عدم معرفة القراءة والكتابة وإنما هي عدم القدرة على التمييز بين ما نقرأ وانعدام القدرة على اختيار ما نكتب.
وافترضنا أنك ومن خلال تجوالك بين فيديوات عديدة مرّ عليك أحدها وعنوانه (ترشّح فيفي عبده لرئاسة الحكومة) وآخر عنوانه (بدء مفاوضات روسيا وأوكرانيا)، فما الذي سيتحكم في ذهنك ويشدّك لتفضيل مشاهدة أحدهما؟ هل ستفكر بحق الفنانة في الحكم متنافسة مع السياسيين، أم سينتابك قلق حرب عالمية نووية عند فشل المفاوضات؟ هنا ستكون نقطة الفصل بالوعي بين فردين في مجتمع واحد، وأن الصدمة التي ستعصف بنا هي عند معرفة عدد متابعي الفيديوين .
من المسؤول؟
في منشور له على الفيسبوك، طرح الصحفي عادل فاخر سؤالاً أراد فيه معرفة السبب بانتشار (التفاهات) عبر وسائل الإعلام، وقد حدد جهتين هما إدارة المؤسسة الإعلامية والجمهور!! بالطبع أراد أن يقول ضمنيا إنهما المسؤولان عن ذلك وبنسب يحددها استطلاعه، فهي ظاهرة عامة في القنوات الفضائية، لأنها وعاء لخليط من الهادم والباني والتافه والجاد والغث والسمين، يحوي كل المتناقضات، فلا يمكن أن تنجح أية فضائية في توجيه خطابها بنسبة 100% مهما كان ذكاء إدارتها ومهنيتها وإحاطتها بالمطلوب نفسياً واجتماعياً للمنتَج.
كانت نتائج الاستطلاع، وحسب تصريحه: “يبدو أن غالبية الجمهور تذهب إلى ما تعتقده ترفيهاً بخصوص المحتوى، لذلك فإن المحتوى الهابط لا يحتاج إلى تفكّر ولا يضيف معلومة للمتلقي بقدر ما هو ترفيه ينشر أو يبث في وسائل متعددة، لاسيما مواقع التواصل الاجتماعي، أما وسائل الإعلام المختلفة فأعتقد أن هناك ضرورة لإجراء استبيان رأي أو استطلاع لمعرفة ما يريده الجمهور بكل فئاته ومستوياته لخلق حالة توازن، أفضل من بث محتوى تافه يستنزف الوقت ويشوّه العقول، فالمحتوى التافه لم يعد يستهوي الأميين فقط، بل صار يستهوي المتعلمين أيضاً، وهنا يكمن أساس المشكلة، لاحظ على سبيل المثال أن الغالبية ترغب بالشعر الشعبي أكثر من الفصيح، حتى على مستوى طلبة الجامعات، مع احترامي للشعر الشعبي وأهميته، لكن ليس لدرجة غياب الفصيح والعمودي بالكامل.”
نظام التفاهة
لابدّ من تعريف لعبارة (تفاهة المحتوى)، التي يصفها أستاذ الإعلام د. محمد وليد طبقاً للمفاهيم التي طرحها الفيلسوف الكندي آلان دونو: “نظام التفاهة يتضح في النظام الاجتماعي الذي تسيطر عليه طبقة الأشخاص التافهين، وبموجبه يُكافأ العمل التافه والرديء على حساب الجاد والملتزم، فضلاً عن انسحاب التفكير العميق والتأملي أمام تغوّل النزعة التقنية ذات الطابع التبسيطي والتنميطي.” ويضيف: “لابد من تنمية القدرات الإعلامية للنشء الجديد والتوعية بالمحيط الرقمي ووسائله وغاياته الفكرية والعلمية وترسيخ الممارسات الإيجابية السليمة في التعامل مع الأخبار والمعلومات بواسطة التربية الإعلامية الرقمية وكذلك تطوير مهارات التحليل والتفكير الناقد وتمكينهم من أدوات تقييم المحتوى لمواجهة التضليل الإعلامي.”
هذا الوصف الواقعي والعلمي للمنتَج الإعلامي الهابط يجرّنا إلى استنطاق خبراء المونتاج الرقمي والأساليب المتطورة فيه. الخبير علي الوندي يقول: “عندما تكون أمام طريقين، الأول صعب ونتائجه غير مضمونة، والثاني سهل المنال والنتائج مضمونة (أموالاً ومتابعين)، فمن المؤكد أن الغالبية سوف تختار الأسهل، فلو أن شخصاً قدم برنامجاً ثقافياً يتحدث عن كتب أو ثقافة معينة، فلن يتابعه إلاّ القلة، أما الشخص الذي يقدم محتوىً ساخراً أو أسئلة غير لائقة وجريئة جداً بمحتوى هابط، هنا سيكون له متابعون ومشاهدات بكثرة. بصراحة فإن التواصل الاجتماعي ساعد كثيراً في دعم غزو الأغبياء (إن صح التعبير) أو دعم العقول الفارغة التي سمحت لكل من هبّ و دبّ بأن يطرح محتواه الهابط، ومع كل الأسف هذا الأمر أسهم بضرر كبير للمجتمع، حاله حال المخدرات والممنوعات الأخرى، ولوّث أفكار أطفالنا وغيّر مساراتهم الى مسارات فارغة، ومع شديد الأسف فإن كبريات الشركات تدعم هذه التفاهات مادياً، ويجري تسويق التافهين كقدوات في مواقع التواصل الاجتماعي، والجيل الفارغ قادم بسب دعم البرامج التافهة.”
ضعف الخطاب الإعلامي
تبقى دائرة البحث في المحتوى التافه واندفاع المجتمع بنسبة غالبة نحو متابعته بحاجة إلى سماع آراء المختصين لنعرف كيف نخرج من هذا الانقلاب التأريخي بالذائقة الفكرية :
أ.د. عبد الكريم الوزان، عميد كلية الإعلام في الجامعة الإسلامية الأميركية، يوجز: “ضعف الخطاب الإعلامي وتردي الثقافة التقنية والإعلامية وتداخل السياسات المتحكمة في وسائل الإعلام لأي بلد، إذ أصبح الكل إعلاميين بمنأى عن الضوابط الثقافية والاجتماعية.”
د. خمائل اللامي، أستاذة الإعلام الجديد في الجامعة المستنصرية، تختصر مفهوم تفاهة المحتوى: “المحتوى الهابط هو المحتوى غير اللائق بثقافة وتقاليد وقيم المجتمع ولا يراعي الأسرة والفرد، الكبير والصغير، المحتوى الذي لا قيمة له في الإطار العام، والتفاهة هي أي محتوى بلا هدف، خالٍ من القيم المجتمعية والمليء بالتناقضات والتشبيهات الهابطة، يقدمه مجهولون لا علاقة لهم بالثقافة، وهو محاولات من قبل البعض للتأثير على ثقافة المجتمع عبر صور منحلة بعيدة عن الأعراف والتقاليد، يعمل وفق مبدأ (خالف تُعرف) على صعيد المضامين المثيرة للجدل، ويستغل اللهجات والمصطلحات الدارجة للوصول إلى فئات المجتمع القليلة المعرفة والتعلم التي بدورها تساعد في انتشار هذا المحتوى الهابط من خلال عمل المشاركات والإعجابات على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يزيد من انتشاره وتأثيره.”
هذه التحليلات والآراء العلمية تشير إلى أن الكلمة الفصل في محو آثار هذا التوجه تنحصر ضمن مثلث أضلاعه: الأسرة، والمؤسسات التربوية، والإعلام الملتزم .