الباوهاوس وصراع الهوية الثقافية
ريا عاصي /
تأثرت بغداد، كغيرها من مدن العالم، في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم بفن مدرسة الباوهاوس، فظهر شارع السعدون بعمارات تتسم بالبساطة والحداثة، وبلونين فقط، مستلهَمة من البيئة البغدادية نفسها، إذ نلحظ اللون الشذري أو التركواز المأخوذ من قبابها ومآذنها المزينة بما يسمى محلياً (القاشاني) وباللون الأوكر الترابي المأخوذ من طابوقها الذي يسمى محلياً بـ (الجفقيم).
كما تحول أثاث البيوت من الزخرفة والتطعيم بالعاج والنحاس، إلى الخشب الصاج الصافي الذي يظهر جلياً في أثاث أسطة شكر الذي ملأت تصاميمه أغلب بيوت بغداد.
وفي الملابس والأزياء تحول التطريز والتطعيم والزركشة إلى الألوان السادة أو الصباغة مبتعدين عن كل ما هو مبهرج. وشابات بغداد استبدلن الـ(السكاربيل والقبقاب) المبهرج بأحذية وحقائب من تصاميم نجيب حراق تتسم بالبساطة والابتعاد عن اللون الذهبي والمزركش ونقش الخشب والجلد.
ما الباوهاوس؟
الباوهاوس Bauhaus مصطلح يشير إلى مدرسة فنية نشأت في ألمانيا كانت مهمتها الدمج بين الحرفة والفنون الجميلة أو ما يسمى بالفنون التشكيلية، كالرسم والتلوين والنحت والعمارة من بين الفنون السبعة. نشأت هذه المدرسة في مدينة فايمر الألمانية، أما الفنون السبعة فيقصد بها: العمارة والنحت والفنون البصرية (الرسم وتفرعاته)، والموسيقى والأدب والأداء (التمثيل والرقص) وأخيراً السينما.
ظهر الباوهاوس في النصف الأول من القرن المنصرم، ومنعت النازية استخدامه وأغلقت المدرسة خوفاً من ضياع الهوية القومية الألمانية، فنجم عن ذلك انتشار هذه المدرسة عالمياً بعد أن فرّ أساتذتها إلى أمريكا ونشروا أفكارهم.
وعلى الرغم من انتشار فكر الباوهاوس عالمياً، لكن الحقيقة أنها لم تنسخ هوية البلدان التي طبقت مبادئها في فنها، بل حدث مزج بين الهويات المحلية والباوهاوس، واتجه العالم إلى تطوير الحرف المحلية وإدراجها ضمن الفنون السبعة.
لدينا في العراق ظهر ذلك واضحاً في العمارة البغدادية في الستينيات، إذ تحول البيت البغدادي من الحوش والخصوصية إلى البيوت ذات الطابقين بلا شناشيل، لكن بأبواب عريضة من الحديد وحدائق غناء وأبواب خشبية داخلية تمزج بين المحلي والباوهاوس. وصار البيت البغدادي رمزاً للترف والراحة لأنه يحتوي على الحديقة المحيطة بالمنزل وشبابيك وسياجات تكشف للمارة غنج الحدائق ودلالها بنخيلها العالي وحمضياتها الغنية وشبويها الليلي الساحر ورازقي الحدائق والسلطاني من الجوري.
جماعة بغداد للفن الحديث
إن ظهور جماعة بغداد للفن الحديث أرسى مفاهيم ومعايير فنية أصيلة وعزز الهوية العراقية، ليس بنبذ الماضي بل باستنباط الماضي وتحريره في هيئة حديثة تليق بمدينة جميلة وزمن حديث ظهرت فيه مبادئ الفن الحديث.
يقول مؤسسو الجامعة في بيانهم التأسيسي: “ولسوف نشَيّد بذلك ما انهار من صرح فن التصوير في العراق منذ مدرسة الواسطي، أو مدرسة الرافدين في القرن الثالث عشر الميلادي، ولسوف نصل بذلك السلسلة التي انقطعت بعد سقوط بغداد على أيدي المغول.”
لقد حَدَّدت الجماعة اتجاهها الإبداعي، وذلك حين دوَّنوه كتابةً قائلين: “إن النزعة الجديدة في عالم الرسم ستحل مشكلة الهوية الفنية في نهضتنا المعاصرة، من خلال السير على خطى فنَّاني القرن الثالث عشر، وسيجد الجيل الجديد من الفنانين في إرث السابقين نوراً يهتدون به،” وهو أحد أهداف جماعة بغداد للفن الحديث.
وعلى الرغم من دخول الفن الحديث للعمارة والنحت وما يرافقهما من حرَف مثل النجارة والحدادة، لم تغب الهوية العراقية في حينها، بل جرى تأكيدها باستبدال الشناشيل بشبابيك لها كتائب ذوات نقوش ورموز بغدادية حديثة مستلهمة من الماضي وبذلك كان الحدّاد حينها فناناً وحرفياً ماهراً في عمله.
يقول جواد سليم في كلمته الشهيرة التي ألقاها عام 1951 في افتتاح معرض الفن الحديث لجماعة بغداد: “بالنسبة للمعاصرين أنا عراقي، لكنني رجل من القرن العشرين أيضاً. فأستطيع أن أرتدي عباءة، لكن هذا لن يجعلني عباسياً، أليس كذلك؟”
ولجواد، كما لغيره من الفنانين، فضل كبير في ترسيخ الهوية الثقافية العراقية، إذ ظهرت العباءة العراقية والعرقجين في رسومه التي أحيى بها رسوم الواسطي القديمة، كما ظهر الثور الآشوري وحمامة سمير اميس في منحوتاته التي عُدّت امتداداً للنحت الآشوري.
جماعة بغداد لم يكونوا من النحاتين والرسامين فحسب، بل انضم إليهم كثير من فرسان النهضة الفنية والأدبية في ذلك القرن من أدباء وشعراء ومعماريين وموسيقيين ومسرحيين، فازدهر الشارع العراقي بالفن والانسجام والتناغم، وعُزز الشعور والانتماء للهوية المحلية.
التذوق الفني والهوية
ذائقة المواطن البغدادي حينها بدأت ترتقي ثانية لتعيد لبغداد بغددتها بين العواصم العالمية والعربية، إذ لم يكن الفن مقتصراً على الفنانين وحدهم أو على طبقة دون أخرى، بل كانت ثمة علاقة طردية تتعالى عالياً وتتنامى، وظهر ذلك سريعاً في البناء كما أشرنا سابقاً، إذ جاء امتداد شارع السعدون بعماراته العالية والحديثة حينها متناغماً مع ما يسبقه من فن في شارع الرشيد واستعيض عن الزخرف والتبهرج في النقوش بالطابوق الجفقيم وبالحدادة الشذري والتركواز الظاهرة في حديد البالكونات والشُّرَف المطلة على الشارع.
كما ظهر كثير من أعمال النجارة الفنية الحديثة المتأثرة بفناني جماعة بغداد، وصار في بغداد العديد من أسطوات النجارة المشهورين في عمل الأبواب العملاقة والصغيرة وذات الهوية البغدادية، التي يمتزج داخل فردتيها الماضي والحاضر معاً.
وظهرت كذلك داخل البيت البغدادي إذ استعيض عن السجاد الإيراني بسجاد عراقي وبنقشات وتصاميم مستمدة من الواسطي، وبرزت سجادات بنقوش وأسماء جديدة مثل (زولية بغداد) التي اشتملت نقشاتها على الورود البغدادية وسعفات النخيل وجذوعه، كما ظهرت القيثارة السومرية في السجاد الذي يعلق على الحائط، واشتهرت سجادة بابل برموز ورسوم بابلية من مقاتلين وصائدي أسود ورموز بوابة عشتار، كما ظهرت الزولية الآشورية التي تحوي تصاميمها على الثور السماوي ونقوش أخرى تمتد إلى نينوى وكل حضارات وادي الرافدين.
وبالتزامن مع تطور المسرح وتحوله إلى مسرح معاصر ظهرت مسرحيات من الواقع البغدادي وبأسماء الحرف نفسها مثل (الدبغخانة) للفنان يوسف العاني ولجماعة مسرح بغداد، ومسرحية (الخان)، وظهر لاحقاً في التلفزيون مسلسل (تحت موس) الحلاق الذي أظهر الحي البغدادي بحرفيّيه من فرّان وبائع خضار ونجار وحداد وسقّاء وحتى (المطيرجي) الذي ظل البعض ينظر إليه بشيء من الازدراء، إذ يرفض القانون العراقي شهادة المطيرجي!
حرب الثمانينيات واندثار الحرف
في الثمانينيات اقتيد قسراً أغلب أسطوات بغداد لينضموا إلى ميليشيا الجيش الشعبي واقتيدوا لحرب الثماني سنوات التي كانت هي الفأس التي قضت على الطبقة المتوسطة من حرفيين كالنجارين والحدادين والفرّانين والبنائين والصفارين والنساجين والفخاريين والخزافين والخطاطين والورّاقين والخياطين ومجلدي الكتب والسرّاجين والطبّاعين الذين كانوا في حينها يطبعون بطرق الزنكغراف، وامتدت الحرب لتصل حتى حفاري آبار النفط الذين تدربوا في معاهد النفط بإشراف مهندسين وكوادر علمية متقدمة.
وفي منتصف الثمانينيات نفسها ظهر معهد الحرف والفن الشعبي التابع لوزارة الثقافة العراقية، وكانت الغاية من ظهور هذا المعهد الحفاظ على التراث الشعبي والحرف والصناعات اليدوية التي اغتيلت في الحرب.
هويتنا اليوم
ضاع وجه بغداد بضياع فن العمارة العراقي الذي تقطعت به السبل واستعيض عنه بحركة إعمار غير مدروسة يقوم بها الأهالي باقتطاع حدائق المنازل وتحويلها إلى عمارات لا تشبه أية عمارة بغدادية قديمة، إذ لم يعد للمهندس المعماري دور، ولا يوجد الأسطة الفنان الذي كان في الماضي يترجم الأعمال الفنية لبناء عمراني فني بغدادي حديث وحال العمارة يشبه حال جميع الحرف.
مفيد عباس (بغدادي أربعيني) عمل سنوات عدة في تجارة الملابس الرجالية، يقول لـ “الشبكة”: “كان أسطوات بغداد معروفين وبغداد بهم ازدانت جمالاً وتبغددت حقاً، إلا أن غياب هؤلاء الأسطوات وعدم إكمال مسيرتهم بتدريب كوادر حقيقية، واتجاه الشباب للتوظيف وعدم تسهيل الإجراءات الجمركية والموافقات والتسهيلات حال دون استمرار معامل الخياطة العراقية.”
وأضاف مفيد عباس: “فئة واسعة من الناس كانت تعمل في مجال الخياطة مثل سيد حسني الخياط في الحرية، المتخصص في خياطة البنطلونات، والخياط عبد الوهاب الخياط صاحب معمل خياطة النهرين في شارع النهر، وكان متخصصاً بـ (القاط) الرجالي، وأبي خلدون خياط البدلات، وضياء في الكاظمية وغيرهم من الأسماء التي كانت تشكل طبقة مهمة من المجتمع البغدادي إذ كانوا يوفرون فرص عمل حقيقية لكثير من الشباب، كما أنهم مثلوا قفزة نوعية في المنتج العراقي.” ويردف بالقول: “كانت شوارع بغداد تتميز بمحال مصوريها، لكنها للأسف انقرضت، مهن كاملة اندثرت مثل الصفارين. إن سوء الإدارة وعزوف الشباب عن الحِرَف جعل منا مجتمعاً اتكالياً يعتمد على الوظيفة ما شيّع فرص ازدهار العراق بصناعات محلية تغنينا عن المستورد إلى مثواها الأخير.”
الفنان والمصمم حازم ولي(خمسيني)، يقول: ” قضت حرب الثمانينيات على أجمل وأحلى حرفيي الطباعة العراقيين، اذ سيق صغيرهم جندياً وكبيرهم إلى الجيش الشعبي وغاب عن المطابع فنانون بالفطرة، العجيب أن بعضهم كانوا أميين، الا أنهم يصفّون الحروف الطباعية بمطابع اللاينو لأي منشور دون خطأ مطبعي وكأنهم يقرأون ويكتبون، وبضياعهم وتطور آلات الطباعة برز لدينا كثيرٌ من الطباعين الذين لا يفهمون رموز اللون والتصميم ويطبعون بكبسة زر طباعة رديئة.”
يضيف: “حاولي أن تنظري بتمعن حولك، لا يوجد مطبوع أو بوستر يمثل بغداد ولا يوجد عمران يشبهها بل مجرد مسوخ مصنوعة من الكوبي بيست مع الأسف.”
كلمة أخيرة
هل نحتاج أن تُبعث (جماعة بغداد للفن الحديث) من جديد لتعيد لنا هويتنا البغدادية وعمارتنا وحرفيينا وصُناعنا؟ أم أننا نحتاج لقوى حثيثة ومشاريع محلية تعيد لبغداد هويتها وتزيد من فرص عمل الشباب وتحفزهم على العودة إلى كنوز الحِرف والفنون البغدادية التي لم يعد الجيل الجديد يعرفها، علّ ذلك يعيد إلينا هويتنا الثقافية العراقية.