البنك المركزي الصرح الأعلى والأجمل في العراق

1٬724

ذوالفقار يوسف – تصوير – يوسف مهدي /

ما أن تدخل منطقة الجادرية في العاصمة بغداد وبالتحديد قرب فندق بابل، حتى يشدَّ انتباهك مبنى غريباً في تصميمه بالرغم من عدم اكتماله حتى الآن، فتارة تراه على شكل زقورة أور، وتارة أخرى قد تخال تصميمه أقرب للمدرسة المستنصرية، وعند دخولك محيط هذا الصرح، تتفاجأ بضخامة هذه البناية التي ارتكزت وسط المباني والبيوت، جعلت من الزميل يوسف مهدي لا يكفّ عن التقاط الصور بعدسته منذ دخولنا المبنى حتى خرجنا منه.
يُعدُّ مبنى البنك المركزي الجديد الأحدث والأعلى في العراق، بعد أن تمّ التعاقد مع المعمارية العراقية الراحلة زها حديد لتصميمه، ويُعدُّ أول تصميم يرى النور لها في بلدها ومن تنفيذ شركة “حيدر عاليف الآذرية”، فقد تزيّنت سماء بغداد بهذا الصرح المميّز، لكنّه لا يزال قيد الإنشاء وبمعدل طابقين في كلّ شهر، ليصبح بعد اكتماله أعلى برج في العراق، مُؤلَّفا من 37 طابقاً وبارتفاع 172 متراً عن مستوى سطح الأرض، حيث يتضمّن المبنى مكاتب، وقاعات للاجتماعات وأخرى للمؤتمرات، ومتحفاً، وخزائن للعملة والذهب، ونصباً تذكارياً للمعمارية زها حديد تكريماً لها.
المباني المستدامة
المهندس ياسر سلام أحد أرباب العمل يحدّثنا ويقول: “بدأ المشروع كفكرة في العام 2009، وكان السبب حينها بأنَّ البنك المركزي بحاجة إلى مبنى جديد عوضاً عن المبنى الموجود حالياً في شارع الرشيد، فأحدث مبنى مستدام بُني منذ العام 1984، والمقصود بالأبنية المستدامة هي التي تحتوي على طرق متطورة من الجوانب الأمنية وطرق خزن الأموال ومراكز البيانات، والحاصلة على شهادة بريم بالاستدامة، إضافة إلى التقليل من استخدام الطاقة وصديقة للبيئة، فقد تمّ التوجه حينها نحو أفضل خيار في العالم، الا وهي المعمارية العراقية الراحلة زها حديد، وفضلاً عن كونها عراقية فهي تمتلك مكاتب التصميم الكبرى في العالم من الجانب المعماري، بينما كان هناك تعامل مع مكتبها بتصميم المتحف العراقي ومبنى البرلمان وبعض الجامعات العراقية، الا أنَّها لم تنفذ على أرض الواقع، وكان قد اقترح في البداية كفكرة من قبل إدارة البنك وعلى رأسها الأستاذ سنان الشبيبي مدير البنك المركزي سابقاً”.
مرحلة التصاميم
يوضح الأستاذ سلام “في البداية كانت هناك مرحلة التحضيرات ومتطلبات البناية كبنك مركزي، ودراسة أمثلة ومشاريع مشابهة وتكلفتها ومتطلباتها، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة التصاميم وعمل مفاوضات مع مكتب زها حديد على عقد التصاميم، وتوقيع العقد في بداية العام 2012، أما المكاتب الاستشارية فجرى التعامل مع 12 مكتباً استشارياً أغلب مواقعها في لندن، وكل ذلك تحت توصيات زها، كمكاتب الأمن والكهرباء والميكانيك والبناء والتكنولوجيا وغيرها من جوانب التصميم، والعمل بمراحل ونماذج بريطانية، وتطوير التصاميم الأولية وبعدها التفصيلية إلى المرحلة الأخيرة وهي الوثائق التي تطلقها إلى المقاولين والشركات المنفّذة، وتم إكمال هذه العملية العام 2015 والمصادقة على التصاميم، وفي هذه الأثناء كان العمل مستمراً يومياً من قبل كوادرنا، لكون التفاصيل كثيرة ولا تقبل التأخير”.
عقود الفيديك
يضيف سلام “بعد أن انتهى العقد مع مكتب زها حديد لكون العقد معها هو عقد تصميم فقط، توجّهنا نحو دعوة مكاتب استشارية للإشراف، وكمشروع معقَّد لا توجد لدينا كوادر محلية بإمكانها الإشراف عليه، وذلك بسبب انقطاع العراق عن المشاريع العالمية، أما الدعوة فكانت أكثر تعقيداً بسبب حساسية العقد ولكونه حكومياً، أما التعقيد الآخر فهو عقد تصاميم المعمارية كملكية فكرية وضرورة عدم التَّلاعب فيه”.
يردف المهندس ياسر “بدأت مرحلة الإحالة على الشركة الاستشارية، إذ قامت على إعداد شروط المقاولة والمناقصة، واكتمل إعداد نموذج عقد دولي وحصل التعامل لأوَّل مرّة مع الشركات الاجنبية، وكصيغة دولية متعارف عليها وهي عقود (فدك) كمسؤوليات استشارية والتحكيم في الخلافات، وإعطاء حقوق جميع الأطراف، وهذا ما شجّع دخول الشركات الاجنبية للعراق وتنفيذها لبناية البنك المركزي من غير تردُّد أو خوف من الأوضاع أو عدم الالتزام بالحقوق”.
تحديات
رئيس مهندسين أقدم إخلاص جواد مدير قسم المشروعات في البنك المركزي العراقي تُحدِّثُنا عن حجم مراحل البناء وتقول: “هناك تحديات رافقت التنفيذ ومن ضمنها تحدي المساحة المحدودة التي تحيط بها الأبنية من كلّ جوانبها، ومع هذا استطعنا أن نجذب الشركات المهتمة، وبالرغم من أنَّها شركات أجنبية الا أن لها فائدة في مزج الخبرات واكتسابها عن طريق هذا المبنى، وتمّتْ عملية التأهيل الأولى عن طريق 4 شركات عالمية، وعمل مؤتمر وتقديم الإيضاحات من قبل الشركات العراقية، وعند تسلُّم العطاءات في العام 2016 قامت لجنة موسعة من قبل البنك المركزي مع الشركات الاستشارية بسبب حجم وكمية الوثائق الضخمة لهذه المناقصة، إذ توجد غرفة كاملة مُلئتْ بالبيانات والوثائق، وبالتعاون مع الشركة الاستشارية الاسترالية وفريق المهندسين، انتهت عملية التحليل الفني للعطاء واختيار الشركة”.
وبيّنت المهندسة إخلاص قائلة: “حصلنا على المصادقة على الإحالة كموافقة مبدئية، الا أنَّه حصل التأخير سنة كاملة بسبب استحصال موافقة مجلس الوزراء لكون المبلغ من صلاحيته، ودخوله من ضمن عمل لجنة اقتصادية، وعلى الرغم من أنَّ ميزانية البنك مستقلة عن الدولة، الا أنَّ أسعار النفط المنخفضة في زمن رئيس الوزراء حيدر العبادي تزامنا مع معاركنا ضد تنظيم داعش الارهابي، فكانت تلك الظروف السبب في تأخيرها، ولكنّنا كبنك كانت لنا الجاهزية، ومع أنَّ التأخير سبّب مشاكل مع الشركات المنفذة، الا أنّنا تخطينا هذه العقبات بدون أي تبعات مالية وقانونية”.
الزقورة والمدرسة المستنصرية
الدكتور سامر سعدي حسين اختصاص هندسة إنشاءات يحدّثنا عن بداية التنفيذ ويقول: “تمّ التنفيذ في بداية عام 2018، من قبل الشركة الآذرية(Daax Construction)، وحاليا تمّ بناء ثلاثة سراديب تحت الأرض؛ الثالث منها قد اكتمل تماماً وبمساحة محدودة، أما الأوَّل والثاني فمساحتهما ضخمة جدَّاً لكونهما تغطيان مساحة الأرض بأكملها، أما الطوابق التي فوق مستوى الأرض، فقد أكملت حتى الآن 6 طوابق منها، والمرحلة الحرجة والصعبة هو بناء البرج، وعلى الرغم من أنّ ارتفاع البناية 172 متراً، الا أن الاختلاف في الطوابق من حيث الارتفاع يختلف من طابق إلى آخر، وكلاً حسب عمله، وسيكون عند إكمال البرج 35 طابقاً، إضافة إلى الطوابق الثلاثة التي تكون تحت مستوى الأرض، وهذا ما يجعلها أعلى بناية في العراق، ومن مميزاتها الأخرى بأنَّها من المباني المقاومة للانفجار والزلازل، وعمرها الافتراضي مصمّم إلى مئات السنوات، أما طرق ربط الحديد، وطرق الميلان، هو التحدي في البناء الإنشائي، إذ إنَّ أغلب البنايات تبنى على النظام الهرمي، الا أنَّه في حالة هذا المشروع قد قلب الهرم وهذا الأمر يجعله
أكثر صعوبة من ناحية التنفيذ، فقد استوحت المعمارية زها حديد شكل البناية من عدّة صروح عراقية كأمثال الزقورة والمدرسة المستنصرية، الا أن التصميم قد يختلف من ناظر إلى آخر، وهذا ما يجعله مميّزاً، بسبب توجه المعمارية غير التقليدي في تصاميمها، وستكون هناك حدائق في أعلى البناية، وحدائق في المدرجات وهذا ما يقرّبها إلى هيئة الجنائن المعلقة”.
100 مهندس وثلاثة أعوام
يضيف سعدي”أنّه بسبب ضخامة وكلفة المبنى صارت هناك بعض العراقيل من بعض المسؤولين غير المختصين بمثل هذه الأمور المهمة، فمرحلة التصاميم فقط تم العمل عليها من قبل 100 مهندس استشاري في لندن ولمدة ثلاث سنوات متتالية، ما عدا الفريق المتواجد هنا والمكاتب التي تمّ التعاقد معها، ومع علمي وزملائي بمحاور التصاميم لا استطيع أن أشرح كل شيء في يوم واحد، لأنَّه لا يشبه أي مبنى آخر في البلد لكونه تخصصيا وليس متداولا، وكل دولة في العالم توجد لديها بناية بنك مركزي واحد فقط”. ويؤكد الدكتور “سيُعدُّ المبنى واجهة للعاصمة، فوجود مثل هكذا بناية جميلة ستبرز وجه بغداد وستعطي صورة أجمل لها، وتحفّز باقي الوزارات على العمل بصورة مشابهة، والغريب في الأمر أن هناك شخصيات وصل بهم الحدّ أن يقارنوا سعر متر المربع في بنائها بمساحة بناية عادية، وأنَّ هناك كُلفاً تخمينية تتخصّص بها شركة حصل التعاقد معها وهي شركة (ايكوم) التي من ضمن عملها توضيح وعمل الكلف التخمينية، وهذه الكُلف لا تعدّ بمجرد رؤية الأرض ومساحتها وحسابها عن طريق أجهزة الحاسوب، إذ تمّتْ عن طريق دراسة البنى التحتية من قبل المقاولين لأكثر من 5 أشهر لتقديم هذه العطاءات، فلكلّ مقاول كادر استشاري، ومع هذا جرى التأييد من قبل بعض النواب، ومن ضمن المؤيدين رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، على الرغم من التَّقشُّف الذي طال البلد آنذاك”.
اكتساب الخبرات
بينما بدأت ملامح هيكل مبنى البنك المركزي بالظهور أشار بعض النواب إلى ضخامة سعر العقد المبرم للبناء، واتُهمت إدارة البنك بالفساد المالي، وضحت لنا المهندسة المعمارية رشا محي ياس هذا الأمر، وقالت: “إن الكلفة التي بينتها وسائل الإعلام هي كلفة تحدّدت من قبل شركات مختصة في الكلف التخمينية، فقد جرى استحصال تخفيض بنسبة 5% من مبلغ العطاء بعد موافقة مجلس الوزراء، إذ كان مبلغ الإحالة هو 773 مليون دولار، أما الكلفة التخمينية فقد حُدِّدتْ بمبلغ 800 مليون دولار، تشمل البناية ومعداتها بالكامل، إضافة إلى تعديل آخر يدخل من ضمن الكلفة هو محطة ضخ المياه التابع لأمانة بغداد، ولأنَّ المضخة تستغل مكانا مهما من مساحة بناية البنك، سيتم نقل هذه المضخة إلى مكان آخر وبناء مضخة جديدة وحديثة من ضمن التكلفة، وأيضاً الصيانة والتشغيل لمدة ثلاث سنوات”. تضيف المهندسة رشا “أن نسبة العمالة العراقية هي 42%، على الرغم من الكوادر الاجنبية الموجودة، ومهما كانت الأوضاع متقلبة في البلد، الا أن عملنا مستمر على قدم وساق”، مبينة “أنَّ المواد الانشائية أغلبها محلية الصنع، كالحديد والحصو والرمل وحتى المكائن، فنسبة 250 ألف مربع هي مساحة كبيرة تستغل بها الأيدي العاملة العراقية من جميع الجوانب المتطلبة، وهذا ما فتح المجال أمام اكتساب الخبرات وتشغيل الأيدي العاملة في البلد، وعلى هذا السياق سوف يكتمل المبنى بإذن الله العام 2022، وسيكون عند حسن ظن الشعب لأنَّه سيكون علامة فارقة في مجال البناء ومن جانب آخر فهو استثمار لأمواله بصورة صحيحة تخدم هذا البلد كبناية سيادية”.
صاروخ قرب البناية
أحد ممثلين رب العمل آلاء أحمد تحدّثنا عن العقبات التي واجهتهم؛ موضحة: “حين بدأنا في المباشر بالتنفيذ وبالتحديد أثناء عمل الشفت المسائي، سقط صاروخ عند عمل إحدى الشركات الفرنسية، إذ إن لهذه الشركة تعليمات صارمة بالجانب الأمني للعاملين لديها، حيث سقط الصاروخ في مركز البناية، وعلى الرغم من عدم انفجاره الا أنَّ عملية الإخلاء قد أجريتْ بسبب الهلع الذي أصاب كوادر العمل، لكن الشركة استمرت بأعمالها بعد انتشال الصاروخ بعد أربع ساعات من قبل فرق الدفاع المدني وبعد أن نفذ في الأرض بعمق مترين ونصف”.
تأهيل متنزهات
تضيف آلاء “بالإضافة إلى المباشرة بتنفيذ المشروع من قبل الشركة المتعاقد معها، تمّت عملية تأهيل متنزهين في منطقة الجادرية لمحلة 913، كانت قد إطلعت عليهم الشركة الآذرية أثناء مراقبتها للأماكن المحيطة بالمبنى، وهذا التأهيل يأتي من ضمن الكلفة الشاملة وبدون تكاليف إضافية أخرى، فقد قامت بوضع الأسيجة المحيطة والألعاب وزراعة بعض الأشجار فيه، وإضافة الإنارة وتمهيد أرضيته بالبلاط الملون”. ختاما نقول ما أسعدنا بهذا الصرح الشامخ سببان مهمان، أولهما غرابة وسحر وجمالية وجوده في بغداد، وثانيهما كونه بصمة العراقية زها حديد التي أذهلت العالم بتصاميمها وستظل خالدة في ذاكرة التاريخ والإبداع وسط عاصمة الدنيا والسلام، نستمتع ونتباهى بها وبه جيلاً بعد جيل.