الحلة.. مسلّة الآثار وينبوع الثقافة
خضير الزيدي /
مكان توزعت فيه تفاصيل حياتك ولحظاتها، تفاجأ لأن العبارة التي تلجأ اليها تضيق وتنكسر رؤيتك وامام ناظريك تنحسر الكلمات مثل أزقة المدينة لتبدو خطوط عالمها الغرائبي متوازية مع تقاسيم الوجه، فلا تحدد ارصفة المدينة وشوارعها وشناشيلها القديمة إلا ضربة الطبيعة ورحلة ايامك الطفولية.
ذلك لأن سحر مدينة مثل الحلة يفرض نوعا من تأمل الحياة والمعيشة والرخاء بين بيوتها القديمة. ولأن بوابة المدينة تذهب بك حيث نهايات شط الحلة وشارع الكورنيش وتأخذك روائح شواء الأطعمة إلى لحظة تأمل كأنك في ذروة لمسات الحياة بشكلها الطبيعي لتسترخي عند أريكة من خشب قديم في حديقة النساء التي مر على تأسيسها زمن طويل حديقة يتجاذب إليها أصدقاؤك الشعراء من المدينة والكتاب بالإضافة للشباب. هكذا تزداد المساحة المخصصة للذاكرة بصورة مفاجئة فلا تجد من الواقع الا تعبيراً يخيط لتلك الذاكرة تجاعيد الزمن وأحجاراً تجتذبك بطريقة خاطفة. الذين يعيشون خارج الذاكرة خرجوا من الصورة، تشاهدهم مسلة بابل، تعثروا بسلالم الهرب من الحريق ولم تكتمل لديهم حقيقة ننماخ. هل هذه بابل القديمة ام الحلة التراثية ام حقيقة مكان اليوم.. انه السؤال الأهم.
عبق التراث
تأسست الحلة سنة ألف ومئة وواحد للميلاد وهذا لا يعني انها تخلو من محلات لها عبق التراث وروائح المكان النابض بالحياة مثل محلة الجامعين والتي تضم اكثر من 360 عالماً دينياً اذ تعد من المحلات القديمة مع اسماء لمحلات اخرى مثل القريطعة والطاق والمهدية والهيتاويين. وما ان تمر على تاريخ امكنة الحلة حتى يتراءى اليك مكان العبادة اليهودية وتجمعهم في جزء من محلة تسمى بوابة اليهود اندثرت بفعل عوامل البيئة وتغيرات الطبيعة. الكثير من امكنة عبادة اليهود والتي تسمى بالتوراة فمنها مندرس ومنها من شيدت عليه معامل ومحال، ولكن يبقى عكد اليهود والباب الخشبي لمحلتهم منقوشا في ذاكرة اهالي الحلة القدماء.. هناك في الجهة الثانية كنائس تتمتع بمكانتها، وهذا ما عرفته محلة التعيس. الكل كان ينحت في مكانه ذكريات الحياة حيث التاخي والتعايش السلمي، ليس لك ان تتصور المكان من دون اللجوء الى عتلة الزمن كأنك تقول إن ازاحة الستارة انطفاء للشمس فلماذا تواصل الرحلة والطريق ينأى، لا شيء يبقى من سؤالك الا المدينة / الذاكرة.
العهد العثماني
الذين يؤرخون لتاريخ الحلة يؤكدون انها تفتقد في العهد العثماني لاي شارع بل امتدت فيها الأسواق الكثيرة لهذا يبدو الانكليز في بدايات دخولهم للعراق وقد شقوا اول شوارع الحلة لمتطلبات عسكرية. كان ذلك في بدايات القرن، اما في منتصف الخمسينات فاصبحت ملامح المدينة تتوضح فاصبح لها شارع يمتد من محطة القطار الى جسرها الجديد بمسمى شارع الملك فيصل، وسرعان ما تغير اسمه ليصبح شارع 14 تموز، وهناك شارع الإمام علي وشارع المكتبات واليوم شارع اربعين الذي يضج بالمحال الواسعة المحتوية بضائع راقية ومناظر جذابة. وكحال غيرها من المدن العراقية تحمل مدينة الحلة سوقاً مسقفاً كبيراً يضم العديد من الحرف الشعبية وسوق الصفافير وسوق الصاغة وسوق هرج وبالتاكيد للطيور ومحبي بيعها وشرائها اجمل الأسواق، وبالقرب من ذلك السوق مدخل ياخذك الى فسحة طويلة، ليبدو أطول سوق في مدن العراق، إلا أن الحقيقة لم تكن هكذا فللسوق العديد من المداخل الفرعية ومدخلان رئيسان الأول يبتدئ بالقرب من شارع المكتبات الشهير في المدينة والثاني بالقرب من محلة الجبل التاريخية، يقول المسنون من أهالي الحلة والقدماء من سكنته إن نشأة هذا السوق تبدأ منذ نشأة تاريخ المدينة والتي عرفت بأن مؤسسها هو (صدقة بن مزيد) عام 495 للهجرة ومنذ ذلك التاريخ ليومنا هذا والمدينة كباقي مدن العراق تأخذ بالتوسع والعمران.
سوق الحلة الكبير
في احد الأفرع التي تنزوي من فروع سوق الحلة الكبير نجد الأحجار الكريمة من السبح والعباءة الرجالية تضج هي الأخرى بالناس، زحمة هذا المكان مسلية لأنها تجعلك تراقب كيف ترى العباءة الرجالية وبالقرب منها المسابح والبسط الشعبية، ذلك المكان ينبهك بأن فيه روحية تجارية ونسبة عالية من البضائع وأحيانا من الأدوات المنسية التي تود غالبية الناس اقتناءها. هكذا يسحرك السوق واشكال الأحجار الكريمة (اليسر والباي والفيروز والكهرب والكهرمان). في هذا المكان المسحور بالتراثيات يشع داخل الإنسان معنى وجوده عبر الأزل فتسقط الفجيعة والفخاخ ولا يبقى الا مقطعها الاخير فتختلط فصول رحلتنا ويتسع ما كان مغيبا من ارث الحلة ثمة مدن تجترح الرؤية وتلك صورة ملونة لها فهي لاتكتفي بقربك ولن تكتفي في داخلك.
زمن يسوق الخوف الى روح السراب وغبار المسرات الممتدة من تخوم المدينة الى خسارات المكان وحطام السنين فبقدر ما يراودك الزمن تنكفئ على خسارتك مسارات نائية ليس لها سوى الذاكرة.