الشبكة تدخل مصانع (غراس) العالمية للعطور.. “سرُ العطر.. (بارڤان) ساحر وقاتل غريب!

410

ميساء فاضل- فرنسا/

أن تشُمَّ رائحة (بارڤان) فرنسي، أو تقرأ رواية (العطر) باسترخاء، فهذا يعني أنك فجأة، ولا شعورياً، سوف تتأمل شوارع باريس الفاتنة وتمشي بين أزقتها المقرنصة وكأنك تراها لأول مرة، وتتساءل كيف كان الناس يتجولون فيها في القرون الماضية، وهناك (جان باتيست غرينويْ)، القاتل الغريب وبطل الرواية التي كتبها الألماني (باتريك زوسكيند) وأدخل العالم لا إرادياً في حالة انغماس وجداني ومرعب في ذات الوقت لحقبة تاريخية سابقة، وتحديداً في القرن الثامن عشر.
غراس.. جوهرة الحياة
(العطر) بمعناها الوجداني وسطورها الروائية الفذّة تعتبر من أجمل ما قرأت، ولا أبالغ إذا قلت إنني عشت مع البطل بحاسة شم غيرت وجهة نظري نحو العطور والروائح إلى درجة قررت فيها زيارة إحدى المدن التي ذهب إليها (جان باتيست غرونوي)، تلك الشخصية الغرائبية المنبثقة من عوالم باريس، الممتلكة حاسة شم إعجازية تسرد الأحداث وكيف تطورت حياة العطار غرونوي، وكيف غدا إنساناً مجرداً من مفهومي الخير والشر، لا يحركه إلا شغف الروائح والعطور.
تجوالي بدأ في مدينة غراس الساحرة بأنوثتها، مدينة الفن والتاريخ المعتق وعاصمة العطورات العالميّة التي تشتهر بإنتاج العطور الجميلة، وهذا هو المكان نفسه الذي جرت فيها أحداث الرواية، حيث مناخها المعتدل المشمس، الذي ساعد حتماً على زراعة الأزهار والنباتات المستعملة في صناعة العطور، مثل الياسمين وزهر البرتقال، كما وجدت أن في مدينة غراس متاحف عدة، الأهم فيها هو المتحف الدولي للعطور، الذي يروي تاريخ المدينة ودور العطور في حياة الإنسان على مر العصور، حين جرى تسجيل المعرفة الفنية المتعلقة بهذه المدينة على أنها تراث ثقافي غير مادي للبشرية من قبل اليونسكو عام ٢٠١٨، علماً بأنها تشكلت على مدى أجيال منذ القرن السادس عشر عندما أصبح الدباغون، الذين حنطوا الجلود بالجواهر المحلية، عطارين تدريجياً، وهو ما عزز نشاط ثقافة مصنع العطور وتحويل المواد الخام الطبيعية إلى عطور متنوعة، كما كانت المدينة معروفة أيضاً بدباغة الجلود وصناعة مختلف الصناعات الجلدية، ومنها الحقائب .
العطر صناعة جمالية
تخيلوا، الدخول إلى دار (فراغونارد) ومصنع العطور الذي يشبه سبر غور بحيرة عائمة في أحضان الحضارة، حيث تقابلك في كل زاوية من زواياه معروضات متعلقة بإنتاج العطور وتخزينها، وكذلك مجموعة من الزجاجات المصغرة الغنية بالزخارف التي كانت تخص الأرستقراطيين، والأثاث الرائع، ولوحات جدارية مرسومة ومصورة، كما يعرض المتحف على زواره تاريخ صناعة العطور التي يعود تاريخها إلى ما يصل إلى 3000 عام، حين كانت العطور تستخدم للتجميل أيضاً، كذلك توجد في الطابق السفلي من المبنى غرفة انتظار، ومن ثم تبدأ الجولات المصحوبة بمرشدين متدربين على يد صانع عطور محترف، الذي يعرف كل شيء عن تاريخ صناعة العطور بعد استكشاف تقنيات التصنيع وتاريخ السوائل الثمينة، وتستغرق زيارة المصنع القديم نحو 15 دقيقة، كما يوجد في داخله المختبر الخاص بالعطور، الذي يشكل جوهر المصنع، وهو ذاته المكان الذي يجري فيه اختبار جميع المواد الخام المستخدمة في تكوين العطور ومنتجاتها المشتقة، بعدها تمر العملية بمرحلة التقطير التي يجري التقطير فيها بالبخار عن طريق غرفة خاصة، وهي عملية قديمة جداً لاستخراج الزيوت الأساسية في الاستخدام منذ العصور القديمة، ومنذ القرن الثامن عشر إلى الآن لا تزال تقنية رئيسة في صناعة العطور التقليدية، أما غرفة التعبئة فتجري فيها تعبئة العطور وتصنيفها في الورشة التي تعمل بكامل طاقتها، إلى جانب غرف التصنيع الأخرى حيث تُسكب العطور المُنتَجة في الموقع في علب من الألمنيوم لكي تحتفظ برائحتها لفترة أطول. أما غرفة النقع (التصفية) فتتميز بوجود أحواض كبيرة من الفولاذ المقاوم للصدأ، يجري فيها خلط مركزات العطر مع الكحول وتترك لتتحلل لأسابيع عدة وتصفى لغرض الحصول على سائل نقي تماماً.
ذائقة (شمامي) الروائح
تتعدد أصناف أزهار العطور الرئيسة التي تشتهر بها فرنسا، مثل وردة (بروفانس) والياسمين وزهر البرتقال ومسك الروم، باعتبارها العاصمة العالمية لصناعة العطور. وبالإضافة الى صناعة العطور وتصنيفاتها الجمالية، هناك أيضاً يصنع الصابون من حبيبات يجري تعطيرها وتشكيلها وتقطيعها بشكل جذاب على شكل قطع ملونة، ثم توضع الحبيبات مع خلاصة العطر في الخلاط لإنتاج أجمل وأزكى أنوع الصابون المعطر. لكن الغرائبية الجميلة في عملية صناعة العطر بكافة مراحله أن هنالك غرفة خاصة بـ (شمّامي) العطور البارعين، الذين توجد غرفة خاصة بهم، واللافت أنه لا يوجد سوى 50 شخصاً منهم في جميع أنحاء العالم.
جدير بالذكر أن من المهم أن يكون هؤلاء بصحة بدنية ممتازة، وحاسة الشم عندهم تعمل بصورة جيدة جداً، فهم الذين يصنعون العطور ويقررون جودتها وملاءمتها النفسية لكل شخص. بعدها وصلت إلى نهاية الجولة بزيارة المتجر الكبير، حيث تعرض جميع المنتجات على أسطح الطاولات التي تتضمن العطور والماء والصابون والشموع، بالإضافة إلى مستحضرات التجميل و(جلّ) الاستحمام والهدايا ويتيح المصنع أيضاً طريقة جميلة ونادرة تمكنك من أن تصنع العطر الخاص بك بنفسك في غرفة خاصة تحتوي على كثير من التركيبات، وأن يكون العطر خصيصاً لك وحدك وعلى ذوقك .