العبايجي… مهنة عريقة توارثتها الأجيال
ذوالفقار يوسف /
تمتد جذور العباءة العراقية عميقاً كموروث شعبي وزي يرتديه العراقيون في مناسباتهم وأفراحهم، فقد ارتبطت بتراث العراق وحضارته كحرفة يدوية مختصة بصناعة الزي العربي بشكل عام، تمتد جذور العباءة العراقية عميقاً كموروث شعبي وزي يرتديه العراقيون في مناسباتهم وأفراحهم، فقد ارتبطت بتراث العراق وحضارته كحرفة يدوية مختصة بصناعة الزي العربي بشكل عام، والعراق بشكل خاص. وقد تفنن أغلب صنّاعها في إتقان خياطتها، لتكون مصدراً لهيبة ووقار مرتديها، وأن تعطيه رونقاً خاصاً ووجاهه عند الناس، فلا تقل هذه الحرفة عن باقي الحرف اليدوية من حيث الفن وإتقان وصعوبة صناعتها.
“الشبكة” التقت بعض أقدم الحرفيين في صناعة العباءة العراقية لتغور في وادي هذه الصناعة التراثية.
“عباثو والبوصيري”
اشتهرت العباءة التي هي ثاني حلقة في الزي العربي بعد أن تحدثنا سابقاً عن العقال، وانتشرت في المناطق الجنوبية والوسطى من العراق، وخصوصاً في الأرياف ومناطق الفرات الأوسط مثل “العمارة والنجف وكربلاء والحلة والناصرية”، وقد نفاجأ بارتداء الفئة الشبابية لها هناك فضلاً عن كبار السن ووجهاء العشائر الذين يعتبرونها لباسهم التقليدي.
وقد أكد الباحثون في عالم الفلكور والأزياء أن تاريخ العباءة يعود الى حقبات قديمة من الزمن، فقد رجح بعضهم أنه يعود الى زمن الرسول محمد(ص) حيث كان يرتدي العباءة، وقد كانت تسمى “البردة” في ذلك الوقت، وقد دخلت هذه المفردة في قصيدة نظمها الشاعر البوصيري يمدح فيها الرسول.
يقال إن هناك بعض المنحوتات التي تؤكد لنا أن العباءة قد تعود لعصور ماقبل الإسلام، حيث تعتبر زياً من الطراز الآشوري، وكانوا يطلقون عليها مفردة “عباثو” الآشورية وترجمتها باللغة العربية “الغطاء” بحيث ألزم بارتدائها القانون الآشوري في المرافق العامة، وايضاً عند النبلاء والوجهاء في ذلك العصر.
زي الهيبة
تعتبر العباءة الجزء الرئيس والمكمل للزي العراقي، حيث تضفي على مرتديها الوقار والهيبة، بما يتناسب مع أصوله وانحداره، ولأن أغلب من يرتدونها هم من شيوخ عشائر ووجهاء، صارت من أساسيات حياتهم كلباس مهم في الجلسات العشائرية ومناسبات الفرح والحزن، وحتى في مواسم حفلات التنكر عند طلاب الجامعات.
بعد تجوالنا في شارع النهر، وبالتحديد في سوق الخفافين والعبايجية، التقينا الحاج عقيل الشمري(٦٣ عاماً) أحد حرفيي صناعة العباءة، الذي قال “إن هذا الزي أصبح منذ صناعاته الأولى محط أنظار الناس، لجودة وصعوبة صناعته، ولأننا نريد الأفضل لزبائننا فقد احترفنا خياطته وتطريزه بصعوبة كبيرة، فقد تعلمت من والدي الحاج مزعل الشمري الذي تعلمها من والده، فنحن من المعاصرين لهذه الحرفة منذ أكثر من مئتي عام، وها أنا الآن قد أكملت خمسين عاماً في مزاولتها، ما جعلني أجيد خياطة أجود أنواعها وأرضي جميع زبائني.
يضيف الشمري أن السوق كان يحتوي على اكثر من عشرة محال لخياطة العباءة، إلا أن هذه الصناعة انحصرت الآن في ثلاثة محال فقط وأخرى في سوق الاستربادي في الكاظمية، بسبب الإهمال واختفاء الطلب على صناعتنا يوماً بعد آخر.
الغازل والحائك والخياط
“تعتمد صناعة عباءة ممتازة، مهما كان نوعها، على الحرفي الذي يقوم بخياطتها على مراحل”، هذا ما ابتدأ به الحاج عقيل الشمري مضيفاً “أن خياطة عباءة جيدة كبناء المنزل، وتحتاج الى اكثر من يد ماهرة لكل مرحلة من مراحل الخياطة، والى الصبر والدقة والتعامل الجيد مع الزبون، فهناك الغازل والحائك والخياط، كل واحد من هؤلاء له دور في اكمال العباءة.”
تتم اولى مراحل الخياطة من خلال اختيار نوع الخيط المراد صنع العباءة منه، وحسب طلب الزبون، فهناك عدة خيوط مثل خيط البريسم الصيني، الذي تتراوح أسعاره مابين 200 الى 300 ألف دينار للكيلو غرام الواحد، حيث يكفي لصناعة 20 عباءة. اما النوع الثاني فهو خيط النايلون التركي المنشأ، ومن بعده خيط الكليتون الذي يقسم الى كل من الخيط الفرنسي والياباني والهندي(البكر) من حيث المنشأ، حيث يتراوح سعر العباءة المصنعة من هذه الأنواع من الخيوط مابين 75-150 ألف دينار، بينما هناك نوعيات خاصة للخياطة منها الإبرة والتي يمتاز بها أهل الجنوب، والتحرير التي يختص بها أهل النجف، أما النوع الأخير الذي يعتبر فناً لايجيده إلا أهل كربلاء المقدسة فهو الخياطة على طريقة الكرماني.
أما عن مراحل صناعتها، فلكل عباءة موسمها، فهناك الصيفية والشتوية والربيعية ايضاً، إلا أن أجودها هي أخفها وزناً، حيث كانت تصنع قبل عدة سنين من صوف الأغنام، فبعد (جز) الصوف يحال الى مرحلة التنظيف لتخليصه من الشوائب والأوساخ العالقة به، ثم تبدأ بعد ذلك عملية الغزل، حيث يُبرم الصوف بواسطة مغازل خاصة ليصبح بعد ذلك خيوطاً رفيعة جاهزة للحياكة. ولهذه المرحلة صنّاعها المهرة وأدواتها الخاصة، إلا أن الخيوط الآن تأتي جاهزة. وبعد عملية الغزل تأتي عملية الحياكة (الجومة)، حيث يُحاك الغزل بواسطة بعض الآلات لتصبح عبارة عن قطعة واحدة تعرف باسم (الدرج) وهذه المرحلة أيضا تحتاج إلى أناس مهرة ومتخصصين، حيث تصل فترة الحياكة وإتمام العباءة الى خمسة عشر يوماً تقريباً.
الأيمن والأيسر
تحتاج هذه الصناعة الى مهارة ودقة فنية في العمل، كما تحتاج الى أناس من ذوي الخبرة والاختصاص في هذا المجال، فلكل مرحلة متخصصون وحرفيون. يحدثنا في من هذا الإطار الحاج علي حسين (40 عاماً) وهو أحد الحرفيين في صناعة العباءة فيقول “تعتمد صناعة العباءة على وزنها وشكلها ولونها والخيوط المصنعة منها، فهناك العديد من الأسرار في هذه الحرفة لايعرفها الا المخضرمون الأوائل في صناعتها، ومنها إمرار الخيط المغزول من خلال ثقب معد مسبقاً في إظفر اليد للحصول على خيط خاص بنوعية جيدة، حيث يصل سعرالعباءة المحاكة بهذه الطريقة الى 700 ألف دينار وأكثر، بينما هناك ألوان كثيرة للعباءة منها الأصفر، والخستاوي، والأسود، والصاجي، والأبيض. وأفضل الألوان التي يرغبها المشتري هما الأصفر والأسود.”
مضيفاً “أن هناك طريقتين لحياكة العباءة، تعتمدان على نوع الخيط الذي استخرج من صوف الغنم، تسمى الطريقة الأولى بـ (الأيمن) وتعني أن الخيوط ماخوذة من صوف أغنام مدللة ذات اهتمام خاص، تعتاش على اعشاب المناطق الزراعية، وهذا النوع مرغوب جداً لجودة خيوطه، وتكون فيه الحياكة من الجهة اليمنى. أما النوع الثاني فيسمى بـ (الأيسر) وتكون طريقة حياكتها من الجهة اليسرى، وخيوطها مأخوذة من صوف أغنام تسكن المناطق السكنية التي تعتاش على النفايات، حيث يقوم مربوها بضربها وعدم الاهتمام بها، ما يجعل نوعية خيوطها رديئة وسهلة التلف، إلا أننا نعيدها بواسطة طريقة تشبه الكي تسمى (النوالة) وأحياناً نقوم بإرجاعها الى سابق عهدها وخصوصاً اذا كان التلف بسيطاً.
المجراوية الأفضل
يوضح لنا الحرفي علي حسين أن هناك أنواعاً ومسميات عدة للعباءة، تختلف طريقة صنعها من محافظة الى أخرى، ولكل موسم عباءته، فمنها الشتوية التي تنقسم الى أنواع منها: الوبر والهربد، السوري، وأبو شهر الإيراني المنشأ الذي تتم خياطته بخيوط الحرير والبريسم، وتصنع في محافظتي النجف وكربلاء، حيث تعرف مدى جودتها بلمس قماشها ووزنها، وهناك (الجاسبي والخاجية). والمضحك في الامر أن أغلب الزبائن يعتبرون هذين النوعين نوعاً واحداً، غير أنهما نوعان للحياكة، فالجاسبي هي خياطة العباءة بتطريز وبلون أصفر والمسمى عندنا (الكليتون)، اما عن الخاجية فهي طريقة الحياكة اليدوية للغزل حتى يصبح (درج).
يضيف علي “عملنا لايقتصر فقط على العراق، فنحن نقوم بتصدير العباءة الى خارجه، وخصوصاً دول الخليج التي تفضل نوعاً خاصاً من العباءة يسمى (المجراوية) وهي أفضل أنواع الحياكة التي يدخل فيها الذهب والفضة في حياكة (الكلبدون) الذي يوشى بالنقوش الجميلة، وتصنع في قضاء المجر الكبير التابع لمحافظة ميسان وتتميز برونق خاص وجمال مميز عند ارتدائها.
“محّد بحالنة”
تعتبر صناعة العباءة الرجالية من الصناعات التي انتشرت في محافظات الجنوب، وانتقلت إلى بغداد في خمسينات القرن الماضي، إلا أن بعض المحال قد اغلق بسبب العديد من العوامل، منها المادية والمعنوية، كالحروب والاقتتال الطائفي الذي أثّر بشكل كبير على صناعتها، خاصة في بغداد، التي كانت مقصداً لكثير من شيوخ ووجهاء محافظتي الأنبار وصلاح الدين، والسياح من باقي الدول، يقول الحاج الشمري”إن العديد من السفراء المتواجدين في العراق كانوا يقصدون محالنا، حتى انني قد صنعت للشيخ زايد(رحمه الله) عباءة أثناء القمة العربية التي عقدت في التسعين آنذاك، فقد كان مولعاً بالعباءة العراقية وطريقة صناعتها.
نناشد الحكومة، كحرفيين وصنّاع للموروث الشعبي والفلكلوري العراقي، أن تهتم بهذه الصناعات المهمة التي آلت الى الاندثار يوماً بعد آخر بسبب الإهمال، وغلاء المعيشة، وسيطرة المستورد على صناعتنا اليدوية والمحلية، التي تعتبر تراث العراق الأصيل.