القدر يحمي العراقيين من القتل الجماعي

161

إياد عطية /

الأقدار وحدها وقفت هذه المرة مع العراقيين قبل أن يفعل “الداب” المسرطن فعله في أجسادهم، لولا الكشف عن صفقة شراء خمسين ألف طن من سماد مسرطن بين وزارتي الزراعة والصناعة ، كان يمكن أن تكتمل فصولها بتوزيعها بين الفلاحين وتناولها من قبل المواطنين على شكل غذاء مسرطن.
وبينما طمأنت وزارة الزراعة المواطنين على أنها لم توزع السماد المسرطن بين المزارعين، وأنه مازال بمخازنها في بغداد والمحافظات، فإن وزارة الصناعة التزمت الصمت عن الإدلاء بأي توضيح بشأن هذا الموضوع الذي يمثل جريمة قتل جماعي بحق العراقيين.
ومصطلح الداب (DAP ) هو اختصار لفوسفات ثنائي الأمونيوم، الذي يؤدي الى أعراض خطيرة اذا ما حدث خلل في عناصره وزادت نسبة الاشعاع فيه عن الحد المسموح، على الرغم من استعماله الشائع كسماد لعدد من المحاصيل الزراعية .
مزاعم وتخرصات
يؤكد رحيم الدراجي، القيادي في تحالف الموقف، أن وزارة الصناعة لا تمتلك خطاً إنتاجياً كما زعم وزيرها، بل إنها تعاقدت مع شخص عراقي الجنسية يزعم أن لديه معملاً خاصاً بإنتاج سماد الداب، لكنه في حقيقة الأمر لم يكن معملاً إنتاجياً بل خط للتعبئة، مستغرباً من “قيام وزير الصناعة منهل الخباز بافتتاح هذا المعمل بعنوان إنتاجي.”
وأشار إلى أن “العراق كان لديه معمل وحيد لإنتاج الداب في الشركة العامة للفوسفات بالقائم في محافظة الأنبار قبل عام 2003، والآن هو عبارة عن أطلال.” مستدركاً أن “وزارة الصناعة تشترك سنوياً في معرض بغداد الدولي بصناديق زجاجية فيها سماد الداب بعنوان الإنتاج الوطني، في حين أن ذلك السماد يعود الى ما قبل فترة 2003؛ وأن العراق حالياً لا يملك أي معمل ينتج هذه المادة.”
وكان أحد مدراء الشركة العامة للتجهيزات الزراعية قد بادر بإجراء كشف عن المعمل الذي أسسه المقاول العراقي على أساس أنه ينتج سماد الداب، وتوصل الى أنه ليس معملاً إنتاجياً، بل إنه خط لتعبئة هذا السماد الذي لم يحدد مصدره وشهادة منتجه.” وبحسب مدير في شركة التجهيزات الزراعية فإن هذا السماد موجود في مخازن قريبة من الشركة العامة للتجهيزات الزراعية.”
كما حذر الدراجي مما وصفه بجريمة قتل جماعية فيما لو وزع سماد الداب بين الفلاحين؛ كونه مسرطناً وعالي الإشعاع وغير مستوفٍ لشروط الاستخدام الزراعي، وفقاً لكتاب مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة البيئة.” مطالباً الحكومة بإجراء تحقيق شامل في هذا الموضوع لاتخاذ إجراءات عاجلة لإتلافه.
ووفقا لمعلومات مؤكدة، مصدرها مدراء في شركة التجهيزات الزراعية ومنتسبون في وزارة الصناعة، فإن “هناك سماداً (فل) مسرطناً، يدخل العراق عبر روسيا وتركيا وإقليم كردستان، ثم يصل البصرة دون أي فحص أو سيطرة نوعية حتى من قبل وزارة البيئة.” مبيناً أن “هذا السماد يتكدس خلال عملية نقله ثم تجري إعادته وإرجاعه على أساس أنه سماد داب.” وقد أكدت الفحوصات التي أجرتها وزارة البيئة أن المادة مسرطنة ولا يمكن استخدامها.
وبينما أعلمت وزارة الصناعة نظيرتها الزراعة بأنها افتتحت خطاً إنتاجياً لسماد الداب، وأبدت استعدادها لتزويد الأخيرة بمنتجها، فإن جميع المعلومات تؤكد أن “الصناعة تعاقدت مع مقاول عراقي لشراء 200 ألف طن من مادة الداب، وهو نفس المقاول الذي ورد للوزارة سابقاً 50 ألف طن، وعانت الوزارة من تلكئه وكثرة الشبهات والمشكلات حوله، لكنها عادت لتعقد معه صفقة أكبر لتوريد نفس المادة!”
وقارن الدراجي بين القيمة المالية للسماد المستورد والعراقي، موضحاً أن “قيمة طن السماد المستورد تبلغ مليوناً وستمئة وستين ألف دينار، بينما سعر الطن المحلي هو مليون وستمئة ألف دينار، أي أن الفرق بين المحلي والمستورد هو 60 ألفاً فقط.” منوهاً إلى أن “المستورد يفترض أن يخضع الى مجموعة من الفحوصات والشروط من جهات عدة في مقدمتها السيطرة النوعية والنقل البري والبحري والجمارك والضريبة.”
ويقول مهندسون إن مادة الداب إذا كانت تحتوي على نسب إشعاع عالية، فإن تأثيرها على التربة قد يمتد لأربع سنوات وتتسبب بإصابة الفلاحين الذين يستخدمونها بعدة أنواع من الأمراض السرطانية، ولاسيما سرطان الجلد.
والواقع أن وزارة الزراعة كانت توجه الدعوة إلى تجار القطاع الخاص باستيراد السماد المركب “الداب” بدون قيد أو شرط وبالكميات التي يرومون استيرادها مع مراعاة المواصفات الفنية. لكنها كانت تلزم التجار بمواعيد وصول سماد الداب بهدف مزامنة الخطة الزراعية الشتوية، ولحاجة الفلاحين والمزارعين ولعدم إنتاجه محلياً من قبل وزارة الصناعة.
سماد الداب
اصطلاح الداب (DAP ) هو اختصار لفوسفات ثنائي الأمونيوم، الذي يعتبر من أكثر الأسمدة الفوسفورية استخداماً في العالم، وهو مصنوع من مكونين شائعين في صناعة الأسمدة، ومحتواه الغذائي المرتفع نسبياً وخصائصه الفيزيائية الممتازة تجعله خياراً شائعاً في الزراعة والصناعات الأخرى. إذ يوفر هذا السماد المصنّع مصدراً موثوقاً به للفسفور المركز، وهو سماد قابل للذوبان في الماء استخدمه البستانيون والمزارعون منذ الستينيات في مجموعة متنوعة من التطبيقات. لكنه سماد خطير، إذ أنه عند وجود خلل في مركباته فإنه يؤدي الى التسمم في حال حدوث عملية امتصاص جرعات كبيرة من أملاح الأمونيوم، فيسبب تسمماً بفوسفات ثنائي الأمونيوم، ويؤدي الى زيادة إدرار البول. ويمكن قياس علامات السمية على البشر من خلال الأعراض الجسدية، إذ تخترق هذه المواد الجلد ببطء.
تطمينات
تسبب كشف عملية التعاقد على سماد الداب المسرطن بصدمة لدى المسؤولين في وزارة الزراعة التي سارعت الى طمأنة المواطنين بأن السماد مازال في مخازنها ولم يوزع بين الفلاحين.
وقال المتحدث باسم الوزارة (حميد النايف) إن شركة التجهيزات الزراعية التابعة للوزارة تعاقدت على شراء 50 ألف طن من سماد الداب، وتسلمت 30 طناً كدفعة أولى خضعت الى الفحص ولم يظهر أي دليل على وجود مواد إشعاع عالية فيها، لكن الفحوصات التي أجريت على الدفعة الثانية كشفت عن وجود مواد مسرطنة عالية الإشعاع ، ما دفع الوزارة الى اتخاذ مجموعة من الإجراءات لمعالجة الموضوع، من بينها منع توزيع المادة بين الفلاحين والتحفظ عليها في مخازن الشركة.
ورداً على تساؤلات “مجلة الشبكة” بشأن عدم وجود شهادة لفحص المنتج، أوضح النايف أن وزارة الزراعة عملت وتعمل على تشجيع المنتج الوطني، وأن هناك ثقة عالية بين وزارتين يفترض أن يكون هدفهما خدمة المواطن العراقي، ومع ذلك فإن المنتج خضع للفحص في مركز إشعاع البيئة. وأضاف: “وجهنا كتاباً الى الشركة بعدم تجهيز الفلاحين، وبالفعل لم يتسلم أي فلاح هذا المنتج.” مبيناً أن إعلان مديرية زراعة ذي قار عن تسلم المنتج صحيح لكنه ظل في مخازنها.
ويقول الدراجي إن كتاب وزارة الزراعة جاء بعد الكشف عن خطورة هذا السماد، على شكل كتاب مستند الى كتاب آخر يخص توزيع المنتج، متسائلاً: “كيف يمكن لوزارة ان تتسلم منتجاً من دون شهادة المنشأ؟”
الصناعة تلتزم الصمت
من جهتها، التزمت وزارة الصناعة الصمت، ولم يصدر عنها أي تعليق على الرغم من خطورة الموضوع، وابلغ المكتب الإعلامي مجلة “الشبكة العراقية” أن الوزارة شكلت لجنة متعددة الأطراف للتحقيق في هذا الموضوع الخطير، ووعد المكتب “الشبكة” بتزويدها بنتائج التحقيق وترتيب موعد للقاء الجهة المسؤولة عن إعلان نتائج التحقيق، لكن الوزارة أوقفت التواصل مع المجلة ولم تبلغنا بموعد إجراء هذا اللقاء، على الرغم من الاتصالات المتواصلة مع مكتبها الإعلامي.
وحتى وقت كتابة هذا الموضوع فإن وزارة الصناعة لم تعلن عن نتائج تحقيقاتها بشأن موضوع سماد الداب، على الرغم من أن خطورة هذا الموضوع تفرض على الوزارة الكشف عن جميع الجهات والأشخاص الضالعين في هذه الجريمة التي تعرض حياة المواطنين للموت، وهي مطالبة بأن تتعامل مع هذا الموضوع بشفافية وتعلن عن نتائج تحقيقها الى الرأي العام.