القشلة.. متنفس ثقافي وتراثي
بغداد- ملاذ الأمين
تصوير- حسين طالب
يرتفع مبنى القشلة 23 متراً عن سطح الأرض، وكان من أعلى المباني في بغداد نهاية القرن التاسع عشر، حين استخدم لأغراض عسكرية، ويعد حالياً من أهم المباني التراثية في العاصمة، إذ إنه بني من أحجار سور بغداد الذي جرى بناؤه قبل عام 1855م، لحماية مدينة بغداد من الهجمات الشرقية.
القشلة
أصل القشلة هو (القشلاغ) – التركية-، التي تعني المكان الذي يمكث فيه الجنود، أو الحصن، أو القلعة، أو السراي، أو مقر والي الحكومة العثماني. ومبنى قشلة بغداد الواقع قرب شارع (الأكمكخانة)، المسمى حالياً شارع المتنبي، وهو موقع المدرسة الموفقية سابقاً. بنيت القشلة من قبل والي بغداد محمد نامق باشا سنة 1850ميلادية، وأكمل البناء الوالي مدحت باشا عام 1886 الذي شيد ساعة القشلة ذات الأربعة أوجه، وبنى لها برجاً لإيقاظ الجنود وإعلامهم بأوقات التدريب العسكري.
مقر الحكومة
شهدت القشلة أحداثاً كثيرة غيرت وظائفها، فبعد علم الدولة العثمانية رفع العلم البريطاني فوق برج الساعة عام 1916، ثم استعمل المبنى عام 1917 مسكناً للضباط الإنكليز وعائلاتهم، كما توِّج الملك فيصل الأول في ساحة المبنى عام 1921، بعدها اتخذ المبنى مقراً لبعض الدوائر والوزارات في الدولة العراقية لغاية عام 1989 حين جرى إدراجه كمبنى تاريخي وتراثي.
وشغلت مبنى القشلة دوائر حكومية عديدة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، منها المحكمة، ومحكمة الاستئناف، وجميع المحاكم الجزائية والبدائية والدوائر التابعة لها، ومديرية المعارف، التي تحولت إلى وزارة المعارف ثم التربية، وكان على رأس البرج المرتفع تمثال لأعرابي يمتطي جملاً، وأزيل هذا التمثال صبيحة يوم الاثنين الرابع عشر من تموز سنة 1958، يوم قيام ثورة عبد الكريم قاسم، وقد قيل وقتها إن هذا التمثال يمثل الحاكم البريطاني (لجمن)، الذي كان حاكماً عسكرياً على العراق، ولم يكن محمود السيرة عند العراقيين.
سور بغداد
ويقال إن مدحت باشا كان قد أكمل بناء القشلة من أحجار سور بغداد العباسي، حسب ما جاء في كتاب العزاوي (العراق بين احتلالين)، وهذه خسارة فادحة للتاريخ العراقي تضاف إلى الخسارات الأخرى في أبنية وشواهد لها قيمتها الكبرى.
ساعة القشلة
وتعد ساعة القشلة من الساعات البغدادية التراثية التي تقع في مبنى المدرسة الموفقية، ويعود تاريخ بنائها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر للميلاد، في العهد العثماني، وتقع في جانب الرصافة من بغداد، إذ إن مبنى القشلة كان هو مقر المدرسة الموفقية سابقاً وبدأ والي بغداد نامق باشا الكبير سنة 1861م بصيانة المبنى وترميمه وبناء البرج، لتكون هذه البناية مقراً للولاية ودوائرها الرسمية، وثكنة عسكرية للجيش العثماني المسؤول عن حماية وتوفير أمن بغداد، كما اختير مكانها الحالي المجاور لضفاف نهر دجلة من جانب الرصافة من بغداد، وسط المنطقة المركزية القديمة لبغداد في مقر مبنى المدرسة الموفقية التي بناها موفق الخادم، حيث ما زال باطن الأرض الذي تقع عليه بناية (القشلة) يزخر بأسس أبنية القصور والمواقع العديدة التي تعود إلى فترة الخلافة العباسية.
وكانت ساعة القشلة أعجوبة زمانها، إذ لم ير البغداديون ساعة توضع فوق منارة بهذا الارتفاع وبأربعة أوجه، وفي قمتها مؤشر حديدي يوضح اتجاه الريح، وأربعة أسهم مكتوب على أطرافها الحرف الأول للاتجاهات وباللغة الإنكليزية، إذ كانت معظم ساعاتهم ذات سلاسل توضع في الجيوب، أو ساعات جدارية.
جدير بالذكر أن الساعة قد جرى إهداؤها من قبل ملك بريطانيا جورج الخامس إلى الحكومة العراقية، وهذا الإهداء مكتوب في داخلها، وهو أول ما يواجه الداخل إليها. وتعمل ساعة القشلة بنظام يختلف عن نظام الساعات القديمة، ولاسيما البغدادية منها، إذ تحتوي ماكينتها على 6 مسننات، أما الساعات الأخرى فتحتوي على 30 ـ 35 مسنناً. ويتذكر غالبية العراقيين يوم دقت ساعة القشلة لأول مرة في ثمانينيات القرن الماضي بعد صمت دام عشرات السنين، حين قام بإعادة تأهيلها وبث الروح فيها المرحوم الحاج محمود عبد الحميد النائب، أقدم ساعاتي في بغداد.
لكنها صمتت الآن بعد أن تعرضت لدمار أشد قسوة من الزمن الذي كانت تعد ثوانيه ودقائقه وساعاته.. صمتت (بعد أن سرقت غالبية أجزائها)، لتحكي قصة هذا الزمن الذي توقفت عجلاته عن التقدم إلى الأمام.