المدفعي.. مهندسُ بغداد وشيخ بنائيها
ريا عاصي
رسوم / علاء كاظم
في لحظة وداعٍ حزينة، نقف أمام إرثٍ خالد صنعه المهندس الرائد هشام المدفعي، الرجل الذي لم يكن مجرد مهندسٍ مبدع، بل عرّاب بغداد ومهندس روحها، خلال مسيرة امتدت لأكثر من سبعين عامًا، تاركًا بصمات لا تمحى على ملامح العراق المعماري، مجسدًا رؤية جريئة لبلد ينهض رغم المحن.
نشأ في أسرة بغدادية أصيلة، حاملًا معه روح الانتماء للوطن، بعيدًا عن الفوارق التي صنعتها السياسة. ومنذ تخرجه عام 1950 في كلية الهندسة المدنية جامعة بغداد، انطلق في رحلة بناءٍ أضاءت كل زاوية من بغداد، من نصب الشهيد إلى ساحة الاحتفالات، من جزيرة بغداد إلى العمارات السكنية والطرق السريعة، كانت رؤيته تُعبر عن شغفه بوطنه الذي أحبه حباً خالصًا.
لم يكن هشام المدفعي مجرد مهندس مدني، بل كان رمزًا للتجدد والإصرار. حمل حلمًا أن يرى شارع الرشيد مُعادًا لسابق عهده، وأن يُقام مجلس لإعمار العراق. عاش حياته ببساطة وعمق، مُحافظًا على تقاليد الأصالة والبغدادية في منزله وحديقته، حيث كل تفصيل كان يعكس حبه لوطنه.
ولد (المدفعي) في شهر تشرين الأول من عام 1928، لقبت عائلته بالمدفعي لعمل جده كضابط مدفعية في الجيش العثماني، وكان هشام ترتيبه الثاني بين إخوته، قحطان (المعماري الشهير)، هشام، سهام (مهندس كيميائي)، عصام (مصمم داخلي)، إلهام (فنان عراقي شهير)، ومن ثم ميادة، التي أسماها معروف الرصافي بذلك.
عام 1962 درس في الولايات المتحدة الأميركية، ثم السويد والنرويج والدنمارك، سياسات الإسكان والمواد الإنشائية المستخدمة في مشاريع الإسكان لمدة عام، ليعود ويكتشف أنه قد تم حجز أمواله من قبل نظام البعث المباد.
ساهم مطلع ثمانينيات القرن المنصرم مع المهندس رفعت الجادرجي بتطوير مدينة بغداد، ليحكم عليه في عام 1986 بالإعدام شنقاً حتى الموت في محكمة الثورة السيئة الصيت، وقضى في سجن المخابرات خمسة عشر شهرًا، ليتم الإفراج عنه بعدها، ويكلف بإقامة مشاريع جديدة لبغداد.
توقفت أعمال مكتبه، حاله حال كل المكاتب الهندسية العراقية إبان الحصار الاقتصادي، لكنه عاود العمل بعد عام 2003 ليقدم العديد من الاستشارات والمشاريع الضخمة والحالمة بعراق جديد.
برحيله، نفتقد رجلًا استثنائيًا، لكن ذكراه ستبقى حيّة، تُذكرنا بأن الوطن لا يُبنى إلا بأيدي العظماء من أمثاله. وداعًا أيها العرّاب، ستظل بغداد مدينة ممتنة لإرثك العظيم.
إن رحيلك يا أستاذ هشام، خسارة لوطن طالما حملته في قلبك وعقلك، لكنه إرثٌ سيظل نبراسًا يُضيء للأجيال القادمة طريق البناء والعطاء.