تعزيز الشفافية والحوكمة .. خريطة طريق لهيكلة المصارف الحكومية

30

عباس عبدالرحمن
أعلنت الحكومة العراقية عن خطط طموح لإعادة هيكلة المصارف الحكومية، وعلى رأسها مصرفا الرافدين والرشيد، وذلك بهدف تحويلها إلى مؤسسات مالية أكثر حداثة وكفاءة قادرة على تلبية احتياجات الاقتصاد العراقي المتنامي.

‏‎ضمن سعي الحكومة لحماية المؤسسات المالية العراقية وربط عملها ضمن حزمة الامتثال والمعايير الدولية، قرر مجلس الوزراء العراقي في جلسته التي عقدت بتاريخ 13 كانون الثاني 2025 تأسيس مصرف جديد بالكامل، يعتمد على أحدث التقنيات المصرفية الرقمية، ويهدف إلى تقديم خدمات مصرفية متكاملة للأفراد والشركات، سواء داخل العراق أو خارجه.
‏‎(مصرف الرافدين الأول)، هو الاسم الجديد، برأسمال أولي قدره 500 مليار دينار عراقي (نحو 381.8 مليون دولار)، مع هدف الوصول إلى تريليون دينار عراقي (نحو 763.7 مليون دولار) كرأسمال نهائي. وستكون مساهمة الدولة في هذا الرأسمال بنسبة 24 %.
وفي الوقت نفسه، قررت الحكومة الإبقاء على (مصرف الرافدين) كمؤسسة حكومية أساسية لتنفيذ التعاملات الحكومية، مع العمل على هيكلته وتطويره بالتعاون مع شركة (أرنست ويونغ الاستشارية).
‏‎وضمن حزمة الإصلاحات، قرر مجلس الوزراء برئيسه محمد شياع السوداني تحويل المصرف الصناعي إلى شركة مساهمة خاصة، مع السعي لإيجاد شريك ستراتيجي له، والإبقاء على المصرف الزراعي والمصرف العقاري وصندوق الإسكان، على حالهم في الوقت الحالي.
‏‎ولتسهيل عملية تأسيس المصرف الجديد، جرى تكليف البنك المركزي العراقي بالتعاقد مع شركة استشارية متخصصة لتقديم الدعم في جميع مراحل التأسيس، كما تم تشكيل لجنة برئاسة محافظ البنك المركزي لمتابعة هذا المشروع والتنسيق مع الشركة الاستشارية.
‏‎حساب خزينة موحد
كشف مظهر محمد صالح، المستشار المالي لرئيس مجلس الوزراء، عن خطط لإطلاق كيان مصرفي جديد في العراق، يهدف إلى تلبية احتياجات الحكومة بشكل حصري. موضحا أن هذا الكيان سيكون بمثابة حساب خزينة موحد، ما يسهم في تنظيم التدفقات النقدية للمالية العامة.
‏‎وأوضح صالح في تصريحات لوكالات الأنباء: في الوقت الذي تستحوذ المصارف الأهلية الخاصة على حصة الأسد من رؤوس الأموال المصرفية بنسبة تقارب 78%، فإن دورها في عمليات التمويل والإيداع محدود للغاية، حيث لا يتجاوز 20 % من إجمالي هذه العمليات.
‏‎وقال: إنه على النقيض من ذلك، يسيطر مصرفا الرافدين والرشيد الحكوميان على نحو 80% من عمليات التمويل والإيداع، رغم أن رؤوس أموالهما مجتمعة أقل بكثير من رؤوس أموال المصارف الأهلية.
يشير صالح إلى أن ‎هذا التناقض يعكس وجود انفصال حاد داخل السوق المصرفية، ما يستدعي إصلاحات جوهرية ضمن البرنامج الاقتصادي الحكومي، فمعظم الجهاز المصرفي العراقي يعتمد بشكل كبير على النظام المالي الحكومي، ما يحد من قدرته على توليد قيمة مضافة للاقتصاد الوطني .ونوّه بأنه نتيجة لذلك، فإن مساهمة قطاع البنوك في الناتج المحلي الإجمالي لا تتجاوز 1.5%، وهي نسبة ضئيلة للغاية.
‏‎وبيّن المستشار المالي أنه في محاولة لمعالجة هذا الخلل، أصدر البنك المركزي العراقي في آب 2023 توجيهات بزيادة رؤوس أموال المصارف إلى 400 مليار دينار عراقي (305 ملايين دولار) على 3 دفعات متتالية.
‏‎والهدف من هذه الزيادات، كما أكد صالح، هو تعزيز الاستقرار المالي وزيادة قدرة المصارف على تقديم خدمات مصرفية أكثر فعالية، ما يسهم في دعم الاقتصاد الوطني.
‏‎وأوضح أن الدراسات الجارية تشمل تقييم الوضع القانوني للمصرفين الحاليين، ودراسة إمكانية الشراكة مع مؤسسات مالية عالمية لتطوير الخدمات المصرفية المقدمة، مشيراً إلى أن الهدف من هذا الإصلاح هو تعزيز اندماج المصرفين في السوق المحلية، وتمكينهما من التوسع في الأسواق المالية العالمية، مع التركيز على تقديم خدمات حديثة مثل المدفوعات الرقمية. وأكد صالح أن هذا الكيان الجديد سيعمل على تعزيز الشفافية والحوكمة في القطاع المصرفي العراقي.
‏‎نقلة نوعية
‏‎يتفق عضو اللجنة المالية النيابية جمال كوجر على أن إعادة هيكلة مصرفي الرافدين والرشيد تمثل نقلة نوعية في الاقتصاد العراقي.
‏‎يقول: إن “هذه الخطوة ستجعل المصرفين شريكين أساسيين للحكومة في خلق فرص عمل جديدة ودعم القطاع الخاص. كما سيُعمل على زيادة ثقة المواطنين بهذين المصرفين، ما يشجعهم على إيداع أموالهم فيهما بدلاً من الاحتفاظ بها في المنازل.”
وأشار كوجر في تصريحات نقلتها وسائل الإعلام إلى أن “النظام المصرفي العراقي لم يشهد تغييرات جوهرية منذ سنوات، وأن الحكومة ساهمت في إضعافه من خلال الاقتراض المتكرر منه.” مضيفاً أن “هذا الاقتراض المستمر قد أدى إلى تراجع أداء مصرفي الرافدين والرشيد، ما يستدعي ضرورة تطويرهما وإعادة هيكلة سياساتهما.”
‏‎وانتقد كوجر الحكومة بسبب اقتراضها المستمر، ولم تتمكن من توفير الدعم الكافي لهذين المصرفين، ما أثر سلبًا على قدرتهما في تقديم خدمات استثمارية متطورة، داعياً الحكومة إلى دعم هذين المصرفين بدلًا من الاعتماد عليهما كمصدر للاقتراض، وذلك لتمكينهما من القيام بدورهما في خلق فرص عمل واستثمارات جديدة في البلاد.
‏‎مصارف رديفة
‎بدوره، كشف أستاذ العلاقات الاقتصادية المساعد ـ كلية الإدارة والاقتصاد د. عبد الرحمن المشهداني عن تفاصيل الخطة الحكومية لإعادة هيكلة مصرفي الرافدين والرشيد.
‏‎وأوضح المشهداني أن “هذه الخطوة تأتي في سياق الجهود المبذولة لمعالجة المشكلات المتراكمة في هذين المصرفين، التي تتمثل بشكل أساس في وجود أصول مالية رديئة، أغلبها قروض قديمة منحت قبل عام 2003.”
‏‎وبين أن هذه الأصول المتعثرة قد أدت إلى تدهور التصنيف الائتماني للمصرفين، ما صعّب من تعاملهما مع المؤسسات المالية الدولية.
‏‎وأضاف أن خطة إعادة الهيكلة تتضمن إنشاء مصارف جديدة، تسمى (مصارف رديفة)، لاحتواء الأصول المالية السيئة الموجودة حاليًا في مصرفي الرافدين والرشيد. وبالتزامن مع ذلك، سيتم دمج الأصول السليمة في كيان مصرفي جديد، ما يؤدي إلى فصل الأجزاء السليمة عن الأجزاء المتعثرة.
‏‎وأكد الخبير والأكاديمي أن “هذه الخطوة تهدف إلى تعزيز الثقة بالقطاع المصرفي العراقي، وتحسين أداء المصارف، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وأنها ستسهم في تطوير الخدمات المصرفية المقدمة للمواطنين والشركات، وذلك من خلال الاستفادة من أحدث التقنيات مثل الذكاء الاصطناعي.”
‏‎ضبط سعر الصرف
من جهته، قال الخبير الاقتصادي عمر الحلبوسي إن “النظام المصرفي العراقي السابق كان عائقًا كبيرًا أمام التنمية، حيث عرقل عمل المصارف وجعلها عبئًا ثقيلًا على الدولة والمواطن.” مضيفًا أن “هذه المصارف كانت تمتص الكتل النقدية الكبيرة دون الاستفادة منها بشكل فعال، ما استدعى ضرورة إجراء دراسة شاملة وهيكلة المصارف الحكومية.”
‏‎وأشار إلى أن “فكرة هيكلة المصارف الحكومية بدأت منذ فترة حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، ولكنها تأخرت حتى العام الماضي.” مبينا أنه “تم تكليف شركة عالمية متخصصة بدراسة كيفية دمج المصرفين الحكوميين الكبيرين، بحيث ينتج عن هذا الدمج مصرف واحد يقدم خدمات مصرفية متكاملة ومتطورة، ومصرف آخر يختص بخدمات حسابات الدولة والمؤسسات”.
‏‎وأوضح الحلبوسي أن هذه الخطوة تأتي في ظل العقوبات الأميركية المفروضة على البنوك الخاصة، التي ألحقت ضررًا كبيرًا بالقطاع المصرفي العراقي.
‏‎وأكد الحلبوسي أن هذه الخطوة “ستسهم بشكل كبير في ضبط سعر الصرف والحد من التقلبات التي يشهدها الدينار العراقي، كما ستساعد في مكافحة الجرائم المالية وتحقيق المعايير الدولية في مجال مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتمثل نقلة نوعية في قطاع المصارف العراقية، وستسهم في تطوير القطاعات الاقتصادية الأخرى وتوفير خدمات مصرفية أفضل للأفراد والشركات.”