تعيـد إنتاج الدرس التاريخي.. (التشابيه) فــــي الوجـــــدان الشعبــي

162

رضــا الـمـحـمــداوي/

تمتاز واقعة (الطف) التي حدثت في سنة 61 هجرية بطابعها التراجيدي المؤلم في صلب التاريخ، بل إنها حلقة مفصلية مهمة في التأريخ الإسلامي، ولهذا استقرت في الذاكرة الجمعية والوجدان الشعبي، ومن هنا نجدها حاضرة دائماً في كل عام، إذ تتجدد ذكراها، وتزداد هذه الذكرى رسوخاً وثباتاً مع مرور الأيام والأعوام.

هذا الحضور الدائم، انتقل بتلك الواقعة من كونها واقعة تأريخية حدثت في وقت معلوم من عمر الزمن، إلى الوجدان الشعبي المتعاطف معها، الذي وجد نفسه يعيد إنتاج معناها ودرسها التاريخي، ويعيد كذلك، صورها وتفاصيلها كي تبقى في ذاكرته وعاطفته. ومن هنا انبثقت الشعائر ومعها الطقوس الخاصة باستعارة هذه الواقعة من كتب التاريخ، ومن ثم القيام بإحيائها من جديد وبث الروح في الأجساد الطاهرة التي بقيت في العراء حتى كأنك – وأنت تشاهد هذه الطقوس وتتفاعل معها- تشعر بالدماء وهي تنزف من تلك الأجساد من خلال مشاهد ما يعرف شعبياً بـ (التشابيه)، حيث يعاد إحياء واقعة (الطف) واستشهاد الإمام الحسين (ع) وآل بيته الأطهار، من خلال تلك الطقوس وإعادة إحياء الواقعة ومجرياتها المأساوية ووقائعها القتالية.
وعلى الرغم من أن هذه الطقوس يغلب عليها الطابع الشعبي، وتميل كثيراً إلى العفوية والتنفيذ البسيط في الإمكانيات والأدوات المستخدمة في القيام بأفعال وتفاصيل تنفيذ هذه الواقعة، إلا أننا لا نعدم الذوق والجهد الفني والطبيعة المسرحية في (إخراج) و(تنفيذ) و (أداء) هذه (التشابيه).
الأسلوب المسرحي
عادةً ما تجري الاستعانة بمفهوم (الطقس الدرامي) بطابعه الديني الكلاسيكي بجذوره ومبادئه الأوربية، في حين يغلب الأسلوب المسرحي الملحمي بمفهومه لدى (بريخت) على وجه الخصوص، حين يجري الابتعاد عن الاستغراق في طقس التشابيه (الممسرح)، ويبقى الحاجز قائماً بين ما يشاهده الجمهور- المتفرج في الهواء الطلق من أفعال، وبين الشخوص والأفراد الذين يعرف الجمهور أنهم، إنما يشخصون، أو يجسدون، أحداث الواقعة، مع ذلك، فإن (التماهي) مع الحدث التاريخي وتجسيده في ذلك الفضاء المفتوح يبقى حاضراً بشكل من الأشكال.
ومما زاد في فعالية وأهمية طقوس (التشابيه) أنها باتت تقام في معظم المحافظات، وفي أكثر من مكان في المحافظة الواحدة، وبدأت في الفترة الأخيرة عملية النقل والتسجيل التلفزيوني لهذه الطقوس، في حين بدأت بعض القنوات التلفزيونية، ولاسيما القنوات الدينية، بالنقل التلفزيوني المباشر لهذه الطقوس، في حين تقوم القنوات الأخرى بتسجيلها ومونتاجها وإعادة بثها مرة أخرى.
الموروث الشعبي
وإذا عدنا إلى مضامين (التشابيه)، لوجدناها قائمة على الموروث الشفاهي الشعبي، حيث لا وجود لـ (نص) درامي – مسرحي مكتوب، كما أن المشرفين على هذه الطقوس، أو الفعالية (الممسرحة)، والقائمين والمشاركين فيها، يختارون الفضاء الواسع والأرض العراء والمساحات المكشوفة، وهو ما يتناسب والبيئة الجغرافية التي دارت فيها معركة (الطف)، ليصار بعد ذلك الى تأثيث تلك الأرض الجرداء بتوزيع المجاميع من (المؤدّين) و(المشخِّصين ) – ولا أقول (الممثلين)- إلى معسكرين قتاليين، مع الخيول والسيوف والرماح والدروع وتوزيع الخيام، والقيام بحفر ساقية أو بركة ماء للدلالة على نهر الفرات.
ويمكن لهذه الطقوس والفعاليات (الممسرحة) المرافقة لها أن تكون أكثر تأثيراً وأكبر دلالة وأعمق حضوراً، إذا ما تصدت لها جهات فنية محترفة وأخذت على عاتقها عملية إعدادها وإخراجها مسرحياً، والعمل على تهيئتها للنقل والإخراج التلفزيوني، وتوفير المستلزمات الإنتاجية المادية والبشرية، بما يضفي عليها طابع الاحتراف الفني والعمل الدرامي، بما يبعد عنها كثيراً من عمل الهواة وتفاصيله الشعبية والعفوية.