تنشر “الشبكة” مادة خص بها الراحل المجلة قبل رحيله… جولة في ذاكرة العمل الصحفي أيام زمان

63

باسم عبد الحميد حمودي/
في صيف عام 1957 استدعاني من مجلسي الدائم في مقهى (البلدية) المواجه لوزارة الدفاع من الجهة الجنوبية، الأستاذ محمود الجندي (أبو لينين)، سكرتير تحرير جريدة (الناس) المسائية، لصاحبها السيد عبد القادر السياب (عم الشاعر بدر). يومها أرسل لي الصديق أحمد فياض المفرجي، الذي كان موظفاً في محاكم بغداد، ويعمل محرراً بالقطعة في صحيفة (الزمان) لصاحبها توفيق السمعاني.
قال لي أحمد “صاحبك الجندي يريدك تشتغل محرراً ومندوب أخبار.. هاي خوش شغلة” وضحكنا، وقمت معه الى مقر الجريدة الذي كان في مطبعة تواجه الإعدادية المركزية. لم يطل أمر الموافقة طويلاً، إذ قادني محمود الى صاحب الجريدة عبد القادر السياب وقال له “هذا كاتب شاب ومن أقارب السياب ومحمود العبطة”، ابتسم السياب وهو يرحب بي ويجلسني قبالته قائلاً “سيكون عملك جلب الأخبار من الوزارات ومديرية الشرطة العامة وتحرير صفحتي الطلبة والأدب.” واضاف محمود “والتصحيح بدقة أعرفها عنك، ولن يتعارض عملك مع دوام الكلية.” شكرتهما وخرجت من غرفة صاحب الجريدة الى غرفة التحرير ومحمود معي.
جلسنا في قاعة تضم كراسي عديدة ومناضد فارغة، إلا من مشرف الإعلانات ومحرر صفحة الرياضة الملاكم عبد السلام نيازي. قال لي محمود “تصدر الجريدة بين الرابعة والخامسة مساء، يعني عليك أن تستكمل جولتك في الوزارات والشرطة قبل الثانية ظهراً.” كان المفرجي جالساً قبالتي يستمع وقال للجندي “عمي أبو لينين شكد الراتب؟” ضحك محمود وقال “ليس أقل من عشرة دنانير مبدئياً.. قابلة للزيادة بوجود النشاط وتصاعد الإعلانات.” وهكذا بدأ عملي الصحفي اليومي في حزيران 1957.
الأخبار من الوزارات والشرطة العامة
لم يكن العمل سهلاً ومفروشاً بالورد، فقد كنت أبدأ بالتجوال بين الوزارات القريبة، أقصد المالية والمعارف (التربية) والعدلية ورئاسة الوزراء، وكل مقراتها في بناء القشلة العثماني مقابل الساعة بمواجهة دجلة، ووزارة الداخلية، ومقرها ملاصق للقشلة مقابل جامع الوزير. أما مديرية الشرطة العامة فهي تجاور القشلة، في بناء مستقل، وفيها غرفة خاصة يديرها مفوض شرطة أو ضابط أمامه سجل الوقوعات والجرائم وأخبار الترفيعات والتنقلات، وهو سجل متاح للصحافة اليومية، ننقل منه أهم أخبار الجرائم المرتكبة في أنحاء العراق كافة، وتنقلات مديري الشرطة ومعاونيهم من مدينة الى أخرى والتقارير الواردة من مديريات شرطة ألوية العراق، من المسموح لنا الاطلاع عليها ونشرها.
في رئاسة الوزراء والوزارات، كانت هناك غرفة خاصة لسجل الأخبار والأوامر اليومية، يديرها موظف دعاية متخصص، يسمح لنا بالنقل منه لكافة الأخبار، من ترفيع ونقل وعقوبات واتفاقات مع دوائر ودول أخرى. الشاطر من الصحفيين هو من يعقد صداقة مع الموظف المختص، او المدير العام، للحصول على تصريح أو خبر خاص، وكان أبرزنا في نشاط الأخبار المحلية في الصحف الأبرز، أقصد: (البلاد) و(الزمان) و(الحوادث) و(الأخبار) و(الحرية)، شخصيات صحفية أقدم منا، مثل الأساتذة: صبيح الغافقي، وشاكر الجاكري، وعبد المنعم الجادر، وحميد رشيد، وصالح سلمان، ومعاذ عبد الرحيم.
كنا نعرف -نحن المندوبين الشباب- أن الغافقي يحصل على الأخبار بواسطة التلفون من الوزير أو المدير العام، وأن عبد المنعم الجادر كان يجلس في غرفة المدير العام، ويأتون له بالسجل لنقل ما يريد، إضافة الى الحصول على تصريح خاص أو أكثر.
لم تكن لدينا وكالة أنباء عراقية
هذا الركض اليومي للحصول على الأخبار المحلية سببه عدم وجود وكالة أنباء عراقية متخصصة تصلها أخبار الوزارات والدوائر، وكان لكل وزارة مدير عام واحد يشرف على نشاطات الوزارة بعد وزيره، ويعقد المؤتمرات الصحفية متى احتاج الى ذلك.
الصحف المسائية
تنفرد الصحف المسائية في بغداد أيامها (قبل 14 تموز 1958) في أن لها القدرة بالحصول على الخبر ونشره قبل الصحف الصباحية، وكانت هذه الصحف هي (الحوادث) لعادل عوني، و(الناس) لعبد القادر السياب، و(اليقظة) لسلمان الصفواني، وهي صحيفة معارضة للحكومات المتعاقبة.
(التسكاه)
(التسكاه) هو مخزن الحروف الذي يجمع كل حروف الطباعة يدوياً في مخازن صغيرة خاصة تجمع أمام المنضد، الذي يتناول الحروف (الأولية والوسطية والنهائية) بواسطة آلة حديدية خاصة، ويصفّها حرفاً حرفاً ليكون الكلمة المطلوبة، ومن مجموع الكلمات تتكون الجملة الصحفية وتنقل الى مكان خاص تتجمع فيه كل جمل المقالة او القصيدة.
كانت عناوين المقالات والقصائد والقصص تتكون من حروف كبيرة يتباين شكلها بين خط الرقعة، أو (البولد)، أو الديواني، وهي تجمع كما تجمع الحروف وتوضع في المقدمة لتتكون منها المادة الصحفية.
المداورة
المداورة هنا هي عملية تنظيم الصفحات المتكاملة، ابتداء من الصفحة الأولى -السياسية- الى الصفحات التالية: الأخبار المحلية، والأخبار العربية والعالمية، والصفحات المتخصصة، والإعلانات، حتى الصفحة الأخيرة، التي هي الصفحة الأرشق والأكثر قراءة وجمالاً. إن عملية المداورة تمثل عملية التصميم اليوم، ويشرف عليها سكرتير التحرير أو المحرر الأقدم.
الأخبار الخارجية
يتكفل الراديو بنقل الأخبار الخارجية، إذ يوجد محرر متخصص لنقل تلك الأخبار وانتقاء الصالح منها، وكان وجود المسجّل الناقل للأخبار من الراديو غير متوفر في كل الصحف، التي كانت تستخدم السماع والنقل المباشر، حسب قدرة المحرر. كان المسجّل موجوداً لدى صحف عالية الموارد مثل (البلاد) و(الحرية) و(الحوادث) و(الأخبار)، في وقت كانت فيه الصحف الأخرى تعتمد طريقة (واكد) للنقل السريع، أو خفة يد المحرر.. وأذنه.
وكالات الأخبار العالمية
كانت وكالات الأخبار العالمية في العراق قليلة، وهي: وكالة الأنباء العربية، ووكالة الشرق الأوسط المصرية، ورويتر. وكان بعضها يرسل أخباره مجاناً، وبعضها مقابل اشتراك. وبعد ثورة 14تموز تأسست وكالة الأنباء العراقية، وسمح للوكالات العالمية الصديقة بافتتاح مكاتبها التي كانت تساعد الصحف المحلية بإرسال نشراتها الصحفية اليومية، مثل وكالات (نوفوستي) السوفييتية، و(شينخوا) الصينية، و(أدن) الألمانية وغيرها.. وبذلك عاشت الصحافة اليومية عهداً جديداً أكثر تطوراً وفائدة وانفتاحاً على العالم.