جسر الأئمّة.. رمز التلاحم الوطني
حسن جوان – تصوير: كرم الاعسم /
يُعرف بأنه صنو جسر الأحرار، ونسخة قريبة من جسر “باترسي” البريطاني في لندن. تداول الناس حوله الحكايات، وجرت عليه الحوادث والفواجع والشهادة والإيثار، وصار رمزاً لتلاحم العراقيين.
يقول الباحث الدكتور صباح ناهي: يُعد جسر الأئمة واحداً من أكثر جسور بغداد خصوصية برغم أنه ليس أقدمها، فهو الجسر الخامس في بغداد من حيث تاريخ الإنشاء، فقد بني خلال الحكم الملكي في أواخر أيامه عام 1957 بعد أن كان جسراً محتكراً للأعظمية، اسماً واستخداماً، بحكم زحامها وكثرة الناس فيها في جانب الرصافة، حيث مقار الدولة وأحياء بغداد المزدحمة وكثرة المباني الحكومية وأبواب بغداد القديمة، فكان الجسر عبارة عن مجموعة من (الدّوَب) المربوطة بحبال التي لطالما فككها تيار دجلة أثناء الفيضانات، وكان أهل بغداد يستيقظون في الخمسينيات مذعورين على (زعل) الجسر ومغادرته شريعتي الأعظمية والكاظمية لتتجول دُوَبُه في النهر مهددة الجسور الأربعة الأخرى جنوباً، لكن الناس اعتادت ملاحقتها والعودة بها لربطها من جديد، ولهذا شهد الانتهاء من تشييد جسر الأئمة أفراحاً وهلاهل أبهجت أهل بغداد.
ولادة جسر جديد
غير أن الجسر الجديد الحديدي الثابت – يضيف د.ناهي- قد صمم شبيهاً لجسر الأحرار وبمواصفات هندسية وإشراف إنكليزي، بأموال عراقية، وأطلق عليه اسم (الأئمة) تيمناً بالإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام في جهة الكرخ، والإمام أبي حنيفة النعمان رضوان الله عليه، المحب لآل البيت والمنادي بأحقيتهم، فكان الجسر علامة مضيئة للوئام والمحبة بين ضفتي دجلة، حيث يعدو النهر من تحته ليعانق جسور بغداد الأخرى جنوباً.
مرت مياه كثيرة من تحت جسر الأئمة وثقت تاريخاً مجيداً فوق هذا الجسر الموصل بين كرخ بغداد ورصافتها، وكانت علامته الفارقة أنه يتوسط المسافة بين منارتين عامرتين شامختين في قلب بغداد، رمزاً للتآخي والوحدة الوطنية في بغداد، بين أهم خواصرها، حيث جمهرة فكرها وعناوين ثقافتها وحياة الناس المكتظة بآمال مترعة على مر العصور، واحترام واضح لقدسية المدينتين العريقتين، الكاظمية والأعظمية، اللتين تتبادلان إشارات البقاء العراقي وديمومة مجد بغداد وأهلها وحياة الناس التي تحج يومياً بين ضفتي النهر عبر (الأئمة)، الجسر الذي شهد تاريخ الأسى واللوعة حين فرضت على أهل العراق الحرب الطائفية التي أُطفئت أسرع مما تخيل مثيرو أوارها بمياه دجلة.
الباشا يفض النزاع
يروى أن نزاعاً معنوياً نشب بين أهالي الأعظمية وأهالي الكاظمية حول تسمية الجسر بعد إتمامه، فهو جسر (الأعظمية) والإمام الأعظم (رض) من ناحية الرصافة، وهو جسر (الكاظمية) والإمام موسى الكاظم (ع) من ناحية الكرخ. فما كان من رئيس الوزراء آنذاك، الباشا نوري السعيد، إلا أن يتقدم بمقترح يفض الإشكال بين جانبي النهر بأن يكون اسم الجسر جامعاً ومرضياً للطرفين فكان اسمه (جسر الأئمة).
وتوكيداً لصحة هذه الحادثة توجهنا إلى الباحث عادل العرداوي وسألناه عن صحة هذه الحكاية إن كانت حقيقية أم انها من المرويات الشفاهية فقط. يقول العرداوي بهذا الخصوص:
هذه المعلومة صحيحة والحادثة وقعت بالفعل، إذ أن المرحوم نوري السعيد رئيس وزراء العراق في عام 1957، حسم نزاع القوم باقتراحة صيغة توفيقية لتسمية ذلك الجسر البغدادي العتيد بأن أطلق عليه تسمية (جسر الأئمة) التي قبل بها أهل الكاظمية وأهل الأعظمية على السواء وتقبلوها برضا وقناعة، وهكذا كان اسم الجسر وبقي على حاله منذ عام 1957، من دون تغيير، وسيبقى كذلك…
فاجعة الجسر ونخوة عثمان العبيدي
زائر الأعظمية اليوم لابد له أن يمر، وهو يستذكر يوم فجيعة وبطولة لا تنسى، ليقرأ آية التضحية تحت تمثال الشاب الأعظمي الغريق (عثمان العبيدي) الذي أصبح رمزاً للأخوة والنخوة منذ أن بادر إلى إنقاذ عشرات النساء والأطفال من ضحايا حادثة جسر الأئمة الإرهابية الأليمة. عن هذه النخوة يعود الدكتور صباح ناهي ليصف ما حدث بقوله:
إنها نخوة الرجال الذين أنقذوا الغرقى أثناء حادثة التدافع والغليان، وكان اسم عثمان العبيدي، الأعظمي السنّي، الذي مات شهيدا وهو ينقذ إخوته العراقيين الشيعة حد الإعياء والشهادة، شاهداً على لحمة الوطن وعنواناً لسقوط الطائفية على جسر الأئمة، ليسجل الجسر علامة مضيئة لبغداد وتاريخها، ويسقط الغلّ والتمنيات الخائبة التي أرادت أن يتحول اسم (الأئمة) إلى عنوان للفرقة والصراع والاقتتال فصار عنواناً بارزاً للتلاقي والوحدة الوطنية.