جماليات الإتكيت والتنظيم افتقاد ودعوة للاسترجاع

17

رجاء شجيري

لطالما كانت بغداد تضج بالأعياد والمناسبات والمحافل والنشاطات الفنية والثقافية والاجتماعية، التي كانت العائلات العراقية تحرص على حضورها والمواظبة عليها، مع تنظيم ورُقي عالٍ من حيث الالتزام والتنظيم و(إتكيت) كل مناسبة. فقد كان هناك ملبس وهندام معينان ومناسبان لكل مكان.

في العروض المسرحية والسينمائية لا تغيب عنهم دقة حصولهم على تذاكر للحضور دون فوضى. وكذلك حسن التصرف في الأفراح ومجالس العزاء، وفن اختيار الهدايا وزيارة المريض، وغير ذلك الكثير من السلوكيات المهذبة التي افتقدناها كثيراً بعد سلسلة حروب وويلات وحصار.. مجلة “الشبكة العراقية” طرقت أسباب بدء تلاشيها وظهور سلوكيات جديدة دخيلة دون مراعاة للذائقة والتقاليد والآداب وحسن التنظيم.
متلازمة الموبايل
د. صالح الصحن، رئيس الملتقى الإذاعي والتلفزيوني في اتحاد الأدباء والكتاب، تحدث بداية عن تفشي ظاهرة التصاق الناس والشباب بالموبايل الشخصي الذي لا يفارقهم أينما ذهبوا في أي زمان أو مكان، دون أي وازع اعتباري أو اجتماعي، إذ يقول: “أحياناً ينساق المرء، بفعل التعود، إلى ممارسة بعض الأفعال بشكل إرادي أو لا إرادي، الأمر الذي يتطلب فيه حضور الوعي والاقناع لتقبل وممارسة هذا السلوك من غيره. وبعضها يسمى من العادات أو التقاليد، وهي سمات اقترنت بمجتمع دون غيره بحيث أصبحت هوية له. موضحاً “استخدام الموبايل يفضل أن يكون ضمن المعقول وعدم الإفراط فيه، إلا في ظرف أو مناسبة مهمة، فلقاء صديق أو رجل كبير أو حضور مجلس عزاء أو جلسة جادة يراد لها فرض الأصول واللياقة، يفضل الابتعاد عن الهاتف الشخصي، لأنه أحياناً يفسر بعدم الاهتمام والاحترام، فليس من اللائق أن يزورك شخص في البيت وأنت تقضي أكثر الوقت مشغولاً بهاتفك الشخصي، فهو سلوك ومؤشر واضح على عدم التقدير.”
الجدار والعودة
المخرج والممثل بشير الماجد، عن غياب ذائقة الإتكيت والتنظيم وعودة جزء منها، يقول:
“اندثر كثير من جماليات الإتكيت والبروتوكولات والتنظيم عن السابق، تحديداً بعد التسعينيات، حين كان الهمّ الغالب المعيشة. أما الوسائل الثقافية والترفيهية والفنية والتنظيم والمواظبة على حضورها، فقد كانت تعد من الكماليات، وجاء بعدها سقوط النظام السابق، وما تبعه من ظروف أمنية سيئة جعلت حتى من نشاطات اتحاد الأدباء، مثلاً، تحول أماسيها إلى أصبوحات، فالظروف الاقتصادية والسياسية والأمنية أثرت على كل مظاهر التوجه والتنظيم.”
يضيف (الماجد): “سابقاً كانت صالات السينما تضج بالناس، ويشهد شباك التذاكر الزحام للحصول عليها في طوابير، والاستمتاع بالعروض بمنتهى التنظيم، وكان للسينما باب خروج معين يخرج الجمهور منه بترتيب، ليأتي جمهور آخر ينتظر من باب الدخول بأعداد كبيرة وإصرار على مواكبة العروض السينمائية، لكن بعد الحصار جرى منع استيراد الأفلام الجيدة، فتدهورت الأفلام والسينما، وصاروا يعلنون عن فيلمين في تذكرة واحدة لجذب الجمهور بعد عزوفه عن الحضور وشراء التذاكر. ”
مضيفاً، بعد عودة التذاكر للعروض المسرحية، الآن كما في مسرحية (الجدار) والعروض التي تلتها مؤخراً على مسرح الرشيد، كان التنظيم فيها مؤشر عافية وعودة تليق بمسرحنا عن طريق تذكرة الدخول، ففيها قيمة للعمل من ناحية وتقليد فني اجتماعي من ناحية أخرى، كذلك كان لإيداع الهواتف في استعلامات القاعة أثر إيجابي في صفاء جو العرض.” متمنياً أن يكون ذلك سياقاً في العروض كافة.
صندوق الميرندا والكعب العالي
أبدت الكاتبة (راما بشار) رأيها عن غياب الإتكيت وحسن التنظيم بقولها:
“كثير من السلوكيات المراعية للأشخاص والأماكن والمناسبات نفتقد إليها، منها حسن اختيار الهندام واللبس لكل مناسبة نذهب إليها، فمثلاً كنا سابقاً مع عائلاتنا نذهب كل يوم أحد إلى السينما ،لأنه نظام عالمي عند قدوم أي فيلم جديد من الخارج يعرض في بداية الأسبوع، فكنا نرتدي أجمل ما لدينا من ملابس (كشخة) مع ارتداء الكعب العالي، ومع عروض المسرح كذلك ذات الهندام، أما عروض معارض الرسم والفنون التشكيلية فلها هندام مختلف تماماً، بسبب الوقوف المستمر دون جلوس، وكذلك التجوال، لذلك لا نرتدى الكعب العالي واللبس الرسمي. ومن الأمور التي يجب الحرص عليها آداب زيارة المريض في المستشفيات وعدم اصطحاب الأطفال عند الزيارة، وألا تتجاوز الزيارة ربع الساعة لأجل راحة وسلامة المريض، ومراعاة لحالته الصحية، مع جلب الورود وليس الطعام للمريض داخل المستشفيات.”
تضيف (راما): “سابقاً في الأعراس والعزاء يراعى إتكيت معين لكل مناسبة، ففي الأعراس مثلاً لا يرتدى اللون الأبيض ممن يحضرون العرس لأنه مخصص للعروس فقط في هذا اليوم، كذلك لا يجري الإعلان من أهل العريس عن تحديد يوم السبعة بعد الزواج، لأنه يعني دعوة لجلب الهدايا، لذلك أهل العروسة يوم العرس يسألون من ذاتهم متى ستكون السبعة؟
وفي العزاء مراعاة أن تقدم القهوة (سادة)، ولا يقدم الشاي، لأنه يعني تجمع فرح وليس حزن وعزاء، وعند تقديم الماء في أقداح يراعى عدم ملئها بالماء ولا يشرب منها حد الارتواء إنما لمجرد بل الريق.”
رز وسكر!
أما السينارست شهد المعيني، فتحدثت عن شدة امتعاضها بسبب الهدايا وفوضى اختيارها إذ تقول:
“نفتقد الناس الذين لديهم فن وثقافة اختيار الهدايا، فهم يعرفون في كل مناسبة ماذا يقدمون، فإذا كانت المناسبة خطوبة مثلاً من الجميل أخذ باقة ورد وعلبة شوكولاتة من الذي يذهب مع عائلته لخطبة الفتاة التي يختارها، كذلك عند أعياد الميلاد وتقديم قطعة أكسسوار أو كتاب ما، وللمريض تقديم الورد الأبيض، وتجنب تقديم المرأة الوردة الحمراء للرجل، لأن لها مدلولات أخرى في أنها هي من تبادر وتعلن الإعجاب. وهكذا فإن لكل مناسبة لوناً معيناً من الورود كانت تراعى، هذه الذائقة والإتكيت بدآ يختفيان ويتلاشيان ضمن فوضى وعبث في السلوك، فالذي يسكن بيتاً جديداً صاروا يقدمون له (كونية رز أو سكر) أو في أية مناسبة أصبح صندوق (الببسي أو الميرندا) رفيق الدرب، وللمناسبات جميعها، فالأشياء المعنوية بدأت تنطمر، والهم الأكبر هو كيف يؤدي بعضنا الواجب بالطعام أو أي شي زائد في البيت.”