خندق الطفوف.. درع كربلاء الأمني وسلّة غذائها

869

محمد حميد الصواف/

كانت كربلاء الهدف الأول لقوى التطرف والإرهاب، ونظر إليها الإرهابيون كهدف رخو، فهي محاطة بصحراء شاسعة يسهل اختراقها، ومن يستعيد أحداث السنوات التي أعقبت سقوط النظام يتذكر حجم وفظاعة العمليات الإرهابية التي نفذت في كربلاء.

لكن السنوات الأخيرة شهدت استقراراً أمنياً وصار السؤال الأكثر إلحاحاً هو كيف نجت مدينة القباب الذهبية الغافية على طرف الصحراء الغربية بسكانها وزوارها من لظى الإرهاب المتربص على أطرافها.
وكيف برع رجالاتها وحكماؤها في إنقاذها من براثن العنف المستشري في العديد من مدن العراق الغربية المحاذية للبادية المنفلتة بكافة أنواع الجريمة.

فبالرغم من الاضطرابات الأمنية والاجتماعية والسياسية في العراق، شمالاً وجنوباً وغرباً وشرقاً، نجحت كربلاء بالنأي عن كل ما يكدر صفو أجوائها، كي تنعم بهدوء ملحوظ لا تخترقه سوى سيمفونية الحياة وطقوسها الروحية المختلفة، فيما تشكل أصوات مآذن العتبات المقدسة التي تتربع وسط المدينة أيقونة تصدح بألحان اعتاد السكان سماعها.. وراء ذلك قصة ترويها “الشبكة”:

كلمة السر

منذ الوهلة الأولى لدخولك هذه المدينة تلحظ اتقاد الحياة في شوارعها وأزقتها وساحاتها، يمتزج بين جدران مبانيها ما هو موغل في القدم، وما هو بالغ في الحداثة، في حين تسترق مسامعك ألسن مختلفة اللغات تتجول بأمان.

ما السر وراء ذلك…خلف هذه المدينة بمسافة تزيد عن مئة كيلو متر في عمق البادية الغربية، تنتشر عناصر (لواء الطفوف) أحد تشكيلات العتبة الحسينية التابعة للحشد الشعبي، ومهمتهم الأساسية حماية أحد المشاريع الأمنية التي تنفذها كربلاء، لتأمين سلامة أكثر من ستين مليون زائر سنوياً يدخلون المدينة فضلاً عن سكانها الذين يصل تعدادهم الى مليون ونصف المليون مواطن.

يشرف اللواء العسكري المذكور على إتمام حفر الخندق الأمني الذي يطوق خاصرة كربلاء الصحراوية من جهة الغرب، تلك الخاصرة الهشّة أمنيّاً والتي تسببت بحدوث عدة خروقات أمنية في السنوات الماضية.

(الحاج مرتضى) ،المشرف العام على تنفيذ المشروع، أكد أن جميع العاملين في المشروع هم من منتسبي لواء الطفوف، وقد كلفوا من قبل آمرية اللواء لتنفيذ هذا المشروع في الوقت الذي يقاتل أقرانهم من الحشد في مدينة الموصل التي تشهد حالياً أعمالاً عسكرية ضخمة بهدف تحريرها من قبضة التنظيمات الإرهابية.

قطعنا حدود البادية الغربية، عبر كثبانها الرملية المترامية على جهتي الطريق الإسفلتي المعبد الذي يخترقها بصرامة، متحدياً أجواءها القاسية.

وطوال فترة مسيرنا على الجادة المعبدة بالإسفلت لم تستوقفنا سوى ثلاثة حواجز أمنية لشرطة المدينة، قبل ان ننعطف في طريق نيسمي رملي بالغ الوعورة مهللاً بنا بعد ان قطعنا عليه خلوته، إذ لم تصادفنا على مدى مسيرنا ما يقرب من ساعة كاملة سوى دورية أمنية مدجج أفرادها بالسلاح.

تل الضبع

وبعد ان تقدمنا في عمق الصحراء، فوجئنا بوجودنا وسط واحات خضر تنتشر في مرابعها هكتارات من الأراضي الزراعية بشكل يثير الاستغراب، وبدأنا نلحظ المقالع الخاصة بالرمل والحصى تنتشر على جانبي الطريق، ولكننا آثرنا عدم قطع حديث الحاج مرتضى حول الخندق الذي كان مثار اهتمامنا الأوحد.

وما هي إلا كيلومترات محدودة حتى شخصت أمامنا حدود الخندق الرملية معلنة حظر المرور من خلالها، فيما تلوح من بعيد الآليات العملاقة التي تمزق بجنازيرها هشاشة الرمال الصفراء، وتقطع على الصحراء سكونها المريب بضجيج محركاتها الضخمة.

اذ أحاطت بنا الرمال في منطقة تل الضبع، وهي عبارة عن منطقة صحراوية متموجة التضاريس تنتشر بين هضابها طرق نيسمية تبدو قديمة جداً، كان الخندق يشق حدوده على جانبها، وسط بيئة بالغة القسوة.

كانت الآليات الثقيلة تضرب الأرض بقوة، متحديةً صلابة صخورها، ويبدو أن العمال الذين يقودون تلك الآليات لم يضعوا في حسبانهم أية هدنة توقف ما يرومون إنجازه، يسابقون الوقت والصحراء في ذات الوقت لإتمام عملهم.

مشروع كبير

قطع المشروع الجزء الأكبر من مراحله مشارفاً على الانتهاء، اذ لم يتبق على إنجازه سوى خمسة عشر كيلومتراً فقط، ليقطع بذلك في عمق البادية مسافة تزيد عن تسعين كيلومتراً ابتداءً من منطقة (الفاج) بالقرب من معمل اسمنت كربلاء وحتى حدود بادية محافظة النجف الأشرف المجاورة للمدينة.

“تمت المباشرة بهذا المشروع بتاريخ 13/7 من عام 2016، وتم إنجاز ما يقرب من 80% من المشروع”، كما يقول الحاج مرتضى.

ويوضح: “عمق الخندق يبلغ بين ثلاثة الى أربعة أمتار فيما يعلوه ساتر ترابي بارتفاع ستة أمتار”.

ويكشف الحاج مرتضى أنهم لجأوا الى المتفجرات لحفر الخندق بعد أن استعصت على الآليات عملية الحفر وتعطل الكثير منها من دون جدوى.

كانت محاور أحاديثهم تدور حول بعض الطرائف ونوعية الطعام والأفاعي التي خرجت من سباتها مجدداً مع حلول فصل الربيع، اذ أخبرونا ان ليلة البارحة شهدت تعرض أحد العاملين الى لدغة أفعى سامة ما استدعى نقله الى المشفى في مدينة كربلاء، بعد ان تم إسعافه بمصل مضاد وفرته ادارة العمل تحسباً لهذه الحالات.

منطقة استثمار

وبحفاوة استقبلنا ميثم عبد الحسين ،صاحب شركة الخليج للاستثمارات، وعدد من عماله في باحة معمله في المنطقة المقابلة لقصر الإخيضر، فيما كانت رائحة السمك المشوي تفوح من الفرن الذي كان يتوسط حديقة مفتوحة أنشأها صاحب المعمل بمزاج عال.

ويفيد ميثم عبد الحسين أن المنطقة باتت الآن تتمتع باسقرار أمني ملحوظ، مشيراً الى أن تواجد القوات الأمنية وحفر الخندق أسهما بشكل فاعل في توفير الأمن. “كنت في السابق أعجز عن استثمار أموالي في هذه المنطقة كونها كانت تعج بعصابات الجريمة وممراً خطراً للجماعات الإرهابية التي كانت تستهدف المناطق الجنوبية من العراق”، يكشف ميثم عبد الحسين.

في هذه الاثناء وفد الى مجلسنا أحد أصحاب المزارع، قبل ان يتداخل معنا في الحديث عن مشروعه الزراعي، اذ استثمر المزارع أحمد راضي أمواله في زراعه أكثر من مئة دونم في زراعة الحنطة، عارضاً علينا زيارة مزرعته.
وبدون تردد، توجهنا صوب مزرعة أحمد التي تجاورها العديد من المزارع الأخرى، فضلاً عن مزارع خاصة لتربية العجول قيد الإنشاء ، الأمر الذي يدل على نهضة استثمارية تسود المنطقة.

راضي اصطحب العشرات من العوائل التي تعمل في الزراعة لتقيم في هذه المنطقة بعد ان أمن المساكن الملائمة لها. ويقول: “كان من الجنون في السابق ان تعرض العمل او الإقامة على المزارعين في هذه المنطقة”.
العتبات المقدسة بدورها لم تتوان عن إقامة العديد من المشاريع الاستثمارية في المنطقة، خصوصا كما يرى المختصون ان هذه الأراضي لا تزال بكراً ومهيأة للاستصلاح بشكل كبير، يعزز ذلك مخزون عملاق من المياه الجوفية الصالحة للاستعمال.

قبيل غروب الشمس قررنا العودة الى مدينة كربلاء، متوجهين صوب العتبة الحسينية للقاء مدير الإعلام جمال الشهرستاني، الذي أخبرنا بأهمية هذه المنطقة اقتصادياً كونها مصدراً للكثير من المحاصيل الزراعية والمواد الانشائية على حد سواء.

ويكشف الشهرستاني ان “الرمل المغسول والحصى والحنطة والشعير باتت من أبرز ما تنتجه هذه المنطقة خلال الموسم الحالي”.

ويضيف “انها منطقة واعدة واستثمارها بالشكل الأمثل يعود بالنفع على كربلاء وبقية مدن العراق”.
صاحب الفكرة

ويشير مدير إعلام العتبة الحسينية الى ان “أمانة العتبات المقدسة بادرت الى إحياء هذه المنطقة والدفع بالمستثمرين للاستفادة منها لعدة اعتبارات اقتصادية وأمنية”. مبيناً ان “العديد من المشاريع المقامة حالياً في غرب كربلاء تعود لقسم الاستثمار العائد للعتبات المقدسة”.

من كربلاء حزمنا أمتعتنا متوجهين الى قرية (جحف) غربي مدينة الموصل، حيث يتجحفل لواء الطفوف الذي يشارك في عمليات تحرير نينوى، للقاء آمر اللواء الحاج قاسم مصلح، صاحب فكرة انشاء الخندق والمسؤول عن تنفيذه.
كانت ليلة ليست كسواها من الليالي، فقد صادف مبيتنا في تلك القرية هجوم لتنظيم داعش على الساتر العسكري الفاصل بين قوات لواء الطفوف والتنظيم، وعلى الرغم من اشتعال الساتر بنيران الرصاص المتبادل إلا أن الليلة مرت بسلام دون إصابات تذكر بين صفوف مقاتلي اللواء، بعد ان انكفأت الجماعات الإرهابية خائبة دون ان تستطيع اختراق الساتر الترابي.

آمر لواء الطفوف الحاج قاسم مصلح عزا فكرة انشاء مشروع الخندق الى العوامل الأمنية بشكل أساس، لاسيما بعد تعرض كربلاء الى عدة خروقات أمنية من هذه المنطقة، فيقول: “ازدادت العمليات الإرهابية التي سعت الى استهداف كربلاء عبر السيارات المفخخة عبر منطقة تل الضبع بعد ان تم تحرير منطقة جرف الصخر”.
ويضيف: “تعتبر منطقة تل الضبع منطقة سائبة أمنياً ويتعذر تأمينها بسبب بعدها عن المراكز الأمنية من جهة وانفتاحها على البادية من جهة أخرى”. موضحاً: “من الصعوبة بمكان منع تسلل الإرهابيين الى هذه المنطقة بسبب كونها منطقة تلال وأودية”.

وأشار مصلح الى ان “الخندق يؤمن خاصرة كربلاء الغربية الى جانب صحراء النجف ويمنع تسلل الإرهابيين الى المدن”.