رؤية حديثة تمتزج بالتراث هل يمكن خلق فلسفة معمارية ذات طابع عراقي؟

33

يوسف المحسن/

في خضم الاحتدام المعماري ولعبة تكسير الأعمدة وهدم الجدران والعبث اللوني بين القديم والمستجَد، بين التراث والمودرن، هل حان وقت الجلوس الى طاولة مستديرة لفهم حاجات الإنسان وانحيازه الى الحداثة ورغبته الداخلية المتشبثة بتراث يمثل هويته وامتداده الفكري؟ وصولاً لاستدراج تراث موازٍ يتناسب مع متطلَّبات العصر، ومن بينها الاستدامة… أسئلة لابدّ منها.

وأسئلة أخرى من بينها: هل تحوّل التراثُ الى عبء ثقيلٍ يُعيق متطلّبات الحداثة؟ أم أنّ الحداثة ومفاهيمها الجمعيّة المستندة الى مبادئ الاستدامة هي استلال من مفاهيم معماريّة تراثيّة أذيبت مع عمليات تعويم الهوية التراثية بشكل تدريجي، التي فرضتها قضايا الاقتصاد التنافسي والاجتماع الاندماجي؟
إن المتجوّل في شوارع المدن العراقية يستشعر هذا التخبّط والانفلات التصميمي الذي لا يمكن لمعماري، مهما بَلغت درجة حنكته الهندسية، أن يجدَ وصفاً له، أو أن يحدِّد خارطة لنموّه وانحساره.
فن العمارة كائنٌ حيّ
“هو كائن حي، عليه أن يتعايش مع البيئة المستهدفة.” بهذا الوصف ابتدأ الأستاذ المساعد الدكتور (ستار جبار الأعرجي) إجابته عما هو المطلوب من المهندس والمصمم المعماري اليوم. الأعرجي قال إنّ “الانسجام مع المحيط والقراءة الوافية لمميزاته وصفاته وحاجات المجتمع المحلي فيه، هي التي لابدّ أن تتصدر اهتمامات المصمم، عوامل بيئية واجتماعية. بالإضافة الى متطلبات الاستدامة التي صارت تشمل درجات الحرارة والطاقة والعزل الحراري وخصائص مواد البناء.” مضيفاً أنّ “الحداثة هي شيء إيجابي يواكب الزمن وحركة التاريخ، على ألا يجري إهمال الجانب التراثي الذي يمثل قيمة اجتماعية وروحية كبيرة لدى الأهالي.” الأعرجي تابع في حديث لـ (الشبكة العراقية) أنّ “تبدّل أدوات البناء والتطويرات التي شهدتها مواد البناء وأساليبه، يقف عائقاً أمام التقيّد التام بالجوانب التراثية العمرانية، ويمكن للمصمم -بحسب قوله- تطويع وتطوير المفاهيم التراثية وفق رؤية حداثويّة خاصة، مع وجود الحقيقة الثابتة، وهي أن فنّ العمارة هو مسرح الاجتهادات.”
تراث متوازٍ يواكب الاستدامة
“ليست أقواساً على الطراز الإسلامي، أو تداخلات وتعرّجات في الجدران على الطريقة السومرية القديمة، وليست لبنات طين وحزماً من القصب والسعف، كما اعتاد سكان الأرياف العراقية والأهوار الجنوبية على الاستعانة بها، هي رؤية جديدة لمواد البناء وأشكال المباني وتغيرات الطاقة.” عن ذلك تقول الدكتورة (هديل سعد) إن “الإنسان لديه توجّه صوب العودة الى الهوية وإحياء التراث.” وهذا ما عملت عليه برفقة زملاء لها من تدريسيي كلية الهندسة في جامعة المثنى وقسم الهندسة المعمارية. سعد أشارت إلى أن “مواد البناء التراثية كانت تحاكي توجهات ومبادئ الاستدامة اليوم، وهي من المفارقات العجيبة، لهذا فإن جهودنا انصبت حول صناعة التراث الموازي وفق رؤية حديثة.” مضيفةً أن “إعادة إحياء الهوية العمرانية والتراثية تبدأ من الحفاظ على المتوافر منها في مدينة السماوة القديمة، بما فيها من مميزات عمرانية في تصميم المنازل واستخدام المواد التي تواكب متطلبات الاستدامة.” وختمت حديثها بالقول إن “كل ذلك لابد من أن يتزامن مع مشروع تثقيفي يشجع السكان على التفاعل بشكلٍ تام مع الدعوات والمناشدات المرتبطة بالحفاظ على الهوية العمرانية والتراثية للمنازل، وعدم الانجرار وراء التقليد الأعمى للطروحات التصميمية المستوردة.”
ومن خلال اثنين وعشرين قسماً لدراسة الهندسة المعمارية في الجامعات العراقيّة، يبدو المصمّمون والمهندسون المعماريون وحيدين في محاولات الوصول الى نقاط التقاء واضحة بين الحداثة العمرانية والهوية التراثيّة للمدن، ودخول اشتراطات الاستدامة كحاجة اقتصادية ملحّة فرضتها التبدلات في درجة حرارة الأرض وعوامل التغير المناخي وأعداد السكان وحاجتهم الى وحدات سكنية أكثر وخدمات أوفر، وعلاقتهم مع البيئة وملوثاتها التي زادت في صعوبة المهمة، التي يقول عنها الدكتور والمعماري (علي سعد عبد الوهاب) “إنها ممكنة في ظل عمليات التعشيق والمشاركة بين المهندسين والمصممين.” عبد الوهاب، الحاصل على تخصصه الهندسي من جامعة بغداد، أضاف أن “العمل يجري في اتجاهين: الأول هو الاحتفاء بالإرث التراثي وإبراز الهوية المعمارية، والثاني البحث في سبل الانسجام مع مبادئ الاستدامة.” مؤكداً أن “الصلة مع الشرائح المجتمعية (فنانين، وحرفيين، وأدباء، وتربويين، ومؤرخين) تسهم في خلق رؤية واضحة عن الحاجات المجتمعية ومعالم الهوية التراثية.”
فهل ينجح المعماريون والمتخندقون معهم في وضع الحاجات الاقتصادية والاجتماعية والجمالية الملحّة لإنسان اليوم في سلّة واحدة تضم أيضاً جزءاً من طموحاته وميوله الروحية والتراثية؟ سؤال يبقى يتردد كصرخة استغاثة في مواجهة التلوث البصَري الذي يهيمن على المدن العراقية.