سرادقات العزاء.. تكاليف عالية وتفاخر في غير محلّه

1٬050

ذوالفقار يوسف/

لم يخطر في خلد أحمد وهو متوجه صوب وادي السلام، لدفن جثمان والده، غير عدة اسئلة ومعترك بين هول المصيبة، وكلمات يتناقلها بينه وبين نفسه، كيف؟ وأين؟ ساقيم عزاء والدي؟ ومن اين لي تكلفة السرادق والطعام، وانا فقير الحال.

وقد بقيت هذه الاسئلة ترافقه كما الدموع والعويل طوال الطريق، حتى في طريق عودته من الدفن، إلا أنه فوجئ عندما تلقى اتصالاً هاتفياً من ابن عمه، يخبره بأن العزاء سيقام في احد الجوامع، ما هون عليه وقع المصيبة، بعدها استفرد الحزن على فقدان والده قلبه، وازيح عنه هم ثان، فور تلقيه تلك المكالمة.

فبرغم التعب والحزن الشديد الذي يشعر به ذوو المتوفى، إلا انه ليس هناك مايهون عليهم هذه المصيبة، بل يزيدها عليهم، فنصب سرادق العزاء، والتكاليف واستقبال المعزين، هو مصيبة ثانية قد تحل عليهم، بالرغم من وجود البدائل، الا وهي الجوامع والحسينيات.

لعنة الشارع

لكل عمل مكانه المناسب، فلا احد يستطيع بناء طاحونة في الصحراء، ولا يمكنك بناء مكتبة في غابة لايسكنها الناس، إلا ان هذا لا نراه في العراق، فقد تواجه وانت تقود عجلتك في الطريق، سرادقاً للعزاء وهو يقطعه تماماً، وعدد كبير من العجلات تحاول العبور ولكن دون جدوى، فقد اغلق تماماً، بسبب عناد أحد أبناء المتوفى، والذي يرفض اقامة العزاء إلا أمام منزله، وآخر قد نصب سرداقاً لعزاء والدته أمام مدرسة، لأنها ابنة الشيخ فلان، ولايجوز ان تنقص مكانتها، ولن يقام العزاء في محل آخر غير أمام منزلها، وسرداق اخر اقيم قرب احد الأسواق المهمة في المدينة، لأن المتوفى من الشخصيات المعروفة، فكم من لعنة قد اطلقت على ميت، بسبب عناد وتفاخر وغرور، وكم من عذاب قد تلقاه انسان وهو يحاول العبور، وقد قطعت سرادقات العزاء طريقه.

عراضات

هي عبارة عن موقف تضامني اجتماعي عشائري من ضمن الأعراف العشائرية التي تأسست على مدى ازمان طويلة كما هي بالمفهوم العشائري، مجموعة من الأفراد تنتمي الى عشيرة او مجموعة من العشائر، تأتي للتضامن مع عشيرة اخرى، للتعبير عن تضامنها وموقفها مع تلك العشيرة في مواقف الحزن من قبيل موت رئيس إحدى العشائر او فقد شخص له أثر في تلك المجتمعات.

هذا ما اوضحه لنا الشيخ فالح المحمداوي، مضيفاً: بانه موروث قد تناقلناه عن آبائنا وأجدادنا على مر الازمان، الا انه قد خف وقعه في هذه الايام ولعدة اسباب، اولها هو اقامة العزاء في الجوامع والحسينيات، واحتراماً لقدسية المكان تنعدم هذه الظاهرة، وايضاً بسبب الأضرار التي تلحق بالناس، فاطلاق العيارات النارية في الهواء هي احدى ظواهر العراضة، وهي كتنبيه لأهل العزاء بقدومنا، وقد تفاقمت الحالة عندما قامت احدى العشائر بوضع الأسلحة بيد اشخاص لا تتجاوز اعمارهم الـ(15) عاماً، فاطلاق العيارات النارية عند بيوت الله هو امر مخالف للإسلام، لهذا فإن من مصلحة صاحب العزاء اقامته في الجوامع والحسينيات.

تبذير وإسراف

“جانت عايزة والتمت” هذا ما ابتدأ حيدر حديثه لنا، عندما سألناه كيف كان عزاء ابيه المتوفى، فقد بانت على وجهه ملامح التعب وهو يقول: لقد كانت ثلاث سنين لا ثلاثة ايام، فقد عزم عمي على اقامة عزاء والدي امام منزله، ونصب سرداقاً لمدة ثلاثة ايام، وفوق هذا قد جعل كلا من وجبتي الغداء والعشاء، بما لذ وطاب من الماكولات، متناسياً حالنا غير الميسور، فلم يبال بكثرة الطعام الذي يرمى في اخر النهار عند مغادرة المعزين وانتهاء وجبة العشاء، فالإسراف فيه بالنسبة الى عمي هو التفاخر امام اصدقائنا واقربائنا من المعزين، ولو كان الامر بيدي لجعلت العزاء في احدى الحسينيات القريبة من البيت، فسبحانه وتعالى لا يرضى بالتبذير مهما كانت المناسبة، وان المساكين والمحتاجين، هم اكثر احتياجاً للطعام الذي يرمى في النفايات ولمدة ثلاثة ايام متتالية، وان اقامته في الحسينية او الجامع، وتقديم الشاي والقهوة فقط للمعزين، بدل ماصرف على تاجير السرادق ومستلزماته والطعام على المساكين، لكان ذلك ثواباً لروح والدي المرحوم.

أمن ونظافة

لابد من ان نتذكر حادثتين مأساويتين حدثتا في الماضي، وقد راح ضحيتهما الكثير من الأرواح، فحادثة تفجير احد سرادقات العزاء في منطقة الفلاح الواقعة في مدينة الصدر، والاخرى في مدينة الشعب، قد انتهز فيها الارهاب فرصة تجمع المعزين في سرادق العزاء، وقام بما يتقنه من تفجير وقتل الأبرياء، سلوان العتابي(33 عاما) يقول وبحسرة: لقد كان احد ضحايا التفجير من اصدقائي، وبعد ان فقدته، قطعت وعداً على نفسي، بان لا اقيم اي عزاء لعائلتي، اطال الله بعمرهم، الا في احد الجوامع، فطبيعة العراقيين هي الالتزام بتقديم العزاء مهما كان الوضع الأمني، وان اقامة العزاء في الشوارع ما هي الا تهديد لأرواح هؤلاء الناس، وجعل المصيبة مصيبتين، وفوق كل ذلك نظافة المساجد وقداستها، فقد نلاحظ عند نصب السرادق في الشوارع الكثير من الاتربة والنفايات والمياه الآسنة التي تكدست فيها، وايضا لا ننسى حرارة الصيف التي تقبع داخل هذه السرادقات، الا انك ترى في المساجد كل وسائل الراحة من نظافة وامان، قد تخلو منه السرادقات المقامة في الشوارع.

عشرة الآف .. ولكن!!

من المعروف بأنك عند زيارتك لعزاء، تجد هناك مايسمى بالواجب، وهو مبلغ مالي تحدده انت كمعزٍ، فالبعض يتفنن في دفع الواجب، والبعض لا يستطيع ان يدفع إلا أنه قد تحتم عليه الدفع، قصي والي(29 عاما) يحدثنا بحيرة ويقول: انا كصاحب عائلة متكونة من خمسة اشخاص، ودخلي اليومي الذي لا يتعدى الـ(15)الفاً، وهذا المبلغ هو مايسد فقط حاجتي اليومية وعائلتي، وعند اقامة عزاء يتوجب علي ان اذهب واقوم بالواجب على اكمل وجه، الا انني في هذا اليوم اقوم بالتقصير على عائلتي، بسبب دفعي لمبلغ(5000) دينار، لاصحاب العزاء وذلك من واجبي، إلا أن من ايجابيات اقامة العزاء في الجوامع والحسينيات، هي عدم دفع الواجب، لعدم تقديم الطعام فيها، وهذه الظاهر قد تلقى الكثير من الاستحسان للذين يكون دخلهم محدودا مثلي، وان لايتوجب عليهم دفع ماهو فوق طاقتهم، فقط لاجل تطبيق مفاهيم واساليب قد تناقلناها من آبائنا وأجدادنا، وليعلم من يرفضها بأن الإنسان، واجب التطور مع تطور الحياة.