سفرة أونلاين ومحيبس افتراضي وقريقعان رمضان المغتربين..طقوس وأجواء مفقودة

381

ألمانيا / آمنة عبد النبي/

المحيبس البغدادي وعركاته المحببة، التي يفتتحها صگار الدربونة وأسطتها في الفطنة السحرية والفراسة بـ “طگ.. طگ.. طگ”، ليستخرجه من وجه وعيني عشرات الشباب الجالسين بقلقٍ وصمت خوفاً من الوقوعِ بكبسةِ “البات” التي تمتد إلى ساعاتِ السحورِ الأخيرة..
أما المربع البغدادي المدلل “بصواني” البقلاوة والكنافة وطبلة المسحرچي التي ينتظرها صغار الدربونة بدشاديشهم البيض، وهم يحملون فوانيس القريقعان البهية، نجميعها طقوس رمضانية خاصة بتراثِ أهلنا، يترقبها قلب المغترب من بعيد، بشغف هائلٍ حينما يطالعها ويتابعها عبر شاشات التلفون، أو تنقلها له برامج الميديا من أزقة بلاده البعيدة، لأن كل شيء في رمضان يجعله خارج مقاسات الزمن والمسافة والجغرافيا، باستثناء ما يعيشه داخل لحظاتها الافتراضية الحقيقية، وكأنه قادم إلى أهله دون حقائب سفر وقهر.
وبالرغم من الغربة والابتعاد عن لمّة الأهل، فهنالك من صنع لنفسه في المهجر طقوساً افتراضية تُشعره بأن أطباق الإفطار و “التعلولة” والسحور، مفروشة على سفرة من أونلاين، وأن العزل الوبائي خلق عند البعض حالة افتراضية من المرح والبهجة مشابهة لرمضان، مع اختلاف فعليّة الطقوس، دون أن يفقد الصائم لذته وصبره.
سخاء وتكافل
تطوع من تلقاء نفسه، وعلى نفقته الخاصة، بخياطة آلاف الكمامات الوقائية وتوزيعها على الناس في كل مدن ستوكهولم، هذا النفس العراقي السخي، خارج بلاده، ليس ببعيد ومستغرب عن صور التكافل الاجتماعي داخلها.. إنه المغترب الناشط في حقوق الإنسان صالح العلواني، الذي تحدث لنا بابتسامته المعهودة:
“مسؤوليتي الإنسانية تجاه الآخر الأوروبي، رضعتها من بلدي العراق، الذي علمنا السخاء الروحي بلا حدود، ولاسيما في أوقات الأزمات، أما الشعور بالحزن، فقطعاً هو عميق جداً تجاه خصوصية رمضان وطقوسه، التي اعتدنا عليها مثل لمّتنا واجتماعنا كعوائل مغتربة، وكأحبة وأصدقاء، ولاسيما بعد مايقارب العشرين ساعة صيام، فكما تعلمين، السويد بلد قطبي الاتجاه وساعات الصيام فيه طويلة ومرهقة، ولكن بما أن المحنة الوبائية هي عالمية وشاملة للجميع، لذلك نحن متمسكون بالإجراءات الوقائية ولا نية لنا في خرقها أبداً، رغم قسوة الحزن والحظر التي ستجردنا هذا الشهر الفضيل من كل خصوصية اعتدناها، لأن في ذلك إيذاء للنفس والتسبب بضررها، لكن قد نجد طقوساً مشابهة، وقد نختلق صلات رحم مقاربة لما اعتدناه وتعلمنا عليه، وضمن الضوابط الصحية قطعاً، وأكثر ما سنتعمق فيه هو الدعاء لنجاة الإنسانية جمعاء من هذا الوباء.”
محيبس أونلاين
“أشد الناس تألماً وتأثراً بغياب التفاصيل الرمضانية المحببة هم نحن، المغتربين قسراً، والمحرومين حظراً، في كل رمضان كنا نترقب حنيّة أهلنا وأكفهم الطيبة المرفوعة بالدعاء، التي كنا نلتقطها من خلال شاشاتنا الصغيرة، سواء عبر البرامج العراقية أو ما ننقله بشكل مباشر عبر موبايلاتنا”.
تلك الروح العراقية الشفافة، القادمة من مدينة الضباب لندن، كانت للمغتربة سميرة العطار، أكملتها بحزن شفيف:
“لمّة الأهل حول سفرة الفطور، منظر المسحرچي وطبلته، والمحيبس والقريقعان، حتى وصفات الأكل وكيفية تحضيرها، كانت حاضرة معنا، إلى درجة أننا أصبحنا نعلِّم أولادنا -المولودين هنا- ثقافة رمضان وطقوسه، فتجدينهم يحدثونك عن رمضان والأعياد بكل التفاصيل وكأنهم ولدوا هناك، أما اليوم، وبسببِ وباء كورونا اللعين، فقد صار من المحال استعادة تلك الطقوس واقعياً، ولا خيار أمامنا سوى الجلوس في المنزل بكل حزن، حفاظاً ووقاية على أروحنا في هذا الشهر، لكننا بالرغم من كل ذلك، حاولنا فتح منافذ روحية وبدائل مشابهة -بعض الشيء- لما افتقدناه، لعلها تخفف لوعة الجائحة، وذلك من خلال استخدام ثقافة (اللايفات) المتنوعة، وكذلك متعة المسابقات والمحيبس الأونلاين، مع گروبات مغتربين أيضاً، تلك الأفكار اقترحتها على كثير من العوائل التي رحبت بفكرة بث التحضيرات الرمضانية وطرائق تحضير الأكلات الخاصة بالفطور، إضافة إلى تلك الفكرة، نحن أيضاً معتادون -هنا في أوروبا- كل عام، بتبادل الأكلات الرمضانية بيننا، كأصدقاء ومغتربين، ونظراً لحراجة الوضع بالتلامس، فقد فكرنا باستبدال الخطة بتحضير أكلات معينة وحزمها جيداً وتركها خارج منزل الصديق المقصود، مع الاحتراز –طبعاً- بكل إجراءات الوقاية الصحية.”
هواية كورونية..!
“الشعور ببعض الخيبة لا يمكن نكرانه، بسبب بعض التغيرات الحاصلة في هذه السنة، وإجراءات الحجر المنزلي، لكنني اعتبرها تندرج ضمن هوايتي الكورونيّة الجديدة في المطبخ”!
هذا الاستبدال الطريف بخصوصية رمضان تجاه الواجبات المنزلية، التي كانت محظورة على الرجال، فأقحمهم بها وباء كورونا، كانت للإعلامي المقيم في ألمانيا مصطفى الشمري، الذي أكمل مبتسماً:
“الأوقات الجميلة من شهر رمضان لا يمكن –قطعاً- تعويضها بحذافيرها كالسابق، ولاسيما في بلاد المهجر، لكن أنا شخصياً عوضتها ببدائل طريفة، مثلاً بإعداد وجبات الطعام اللذيذة مع الزوجة، ومشاركتها أفكار كل وجبة، ولاسيما بعد أن تحول الكثير من مهامنا كرجال داخل المطبخ خلال الحظر، كذلك بأشياء روحانية كثيرة ومتابعة المسلسلات والمقالب العراقية الممتعة، وتبقى خصوصية رمضان في كونه مختلفاً عن بقية الأشهر في حلاوته، وإن كانت هنالك أزمات صحية او غيرها، فحلاوة رمضان تبقى كما هي، لأنها كفيلة بتقريبنا، بعضنا من بعض، نحن لا نملك خياراً سوى البقاء في المنزل إذا استمر انتشار الوباء العالمي القاتل، لكن هنالك ما يجعلنا قريبين من بعضنا الآخر، وهي التكنولوجيا الرمضانية التي تساعدنا في إجراء مكالمات بالصوت والصورة على شبكات الإنترنت وتبادل الطبخات، لكن في الأخير يبقى اللقاء الحقيقي مع من نحب أفضل بكثير، لذلك نضطر أحياناً الى النوم في النهار أثناء الصيام، فهو أولاً عبادة وثانياً يساعدنا في تحمل الجوع والعطش والحظر هنا”.
بصمة أخلاقية
مملكة الإوزّ والثلج والخضرة ‘النرويج’، كانت لنا فيها وقفة مع المختص بالثقافة التنويرية علي موسى الموسوي، عن البعد السلوكي لرمضان بعد الجائحة، قائلاً :
“الحياة في بلاد المهجر، قبل الجائحة وبعدها، تفتقد جمالية الشكل الثقافي الخاص بطقوسنا التي تركناها هناك: الفوانيس المعلقة، صوت المدفع، خصوصية الكثير من العبادات. لكن هذا الفقد القسري لم يفقد المغترب استشعاره بقيمته الروحية التي كانت حاضرة بكل قوة، لأن البصمة الأخلاقية لرمضان لها القدرة على تجاوز حدود الزمكانية، من خلال بركاته التي تجدها في كل شوارع العالم، وعلى موائد كل المذاهب والملل الإنسانية. أما فايروس كورونا، الذي يفتخر بأنه أدخل الرعب في نفوس العالم بأسرهِ، فليس بإمكانه النيل منا، بل إن البعد السلوكي لرمضان هذا العام سيتجه، وبقوة، نحو تغيّر النفوس المبتلاة بالجائحة، القلقة من فقدانِ أحبتها، والدليل أن رمضان أوروبا هذا العام شهد تكافلاً كبيراً، فقد أعدت لهذا الشأن آلاف السلال الغذائية، مشابهاً لما حدث في كوكب العراق، الذي أحب أن أسميه بهذا الاسم، لأن الخيرات فيه كانت توزع من شماله إلى جنوبه إلى غربه بطريقة تكافلية أذهلت العالم وأعطته فكرة عن الجانب الألمع في الحياة.”