شادوبوم.. من أقدم جامعة في العالم إلى منطقة تحاصرها النفايات
آمنة السلامي _ تصوير: صباح الامارة /
أين ما وطأت قدماك في العراق فإنك تطأ كنوزاً لا تقدر بثمن. فمنذ آلاف السنين ترك لنا أجدادنا، أصحاب فجر السلالات، ممن علّموا العالم الحرف الأول والقانون الأول والعجلة الأولى، تركوا مفخرة حضارية وإنسانية خالدة خلود الدهر.
لكننا اليوم تناسينا ما خبّأه لنا صنّاع الحضارات الأوائل تحت أديم هذه الأرض لنحوّله الى مواقع تعاني النسيان والإهمال اللذين يتجلّيان بأفظع صورهما في تحويل تلك الأماكن الى مكبات للنفايات والأزبال، يرافقهما عجز واضح من قبل الجهات المختصة في المحافظة على هذه المواقع الأثرية.
في جولتنا هذه ارتأينا أن نسافر الى عمق التاريخ كي نزور بعض هذه الأماكن الأثرية:
أقدم مدن التاريخ
في الجانب الشرقي من العاصمة بغداد، وبالقرب منطقة بغداد الجديدة، هناك تل ترابي يرتفع عن الأرض بحدود ثلاثة أمتار يسمى (تل الضباعي)، ترقد تحت هذا التل إحدى أقدم مدن التاريخ وهي مملكة إشنونـّا، وإشنونا دويلة سومرية أنشئت في حدود ( 2028 ق.م. ) وقامت بين نهري دجلة وديالي. ظلت هذه الدويلة قائمة إلى أن ضمّها حمورابي إلى دولته الكبرى عام 1761 ق.م. واليوم تحولت بقايا هذه المدينة الى أرض جرداء تملأ فضاءاتها الأزبال والأنقاض ومخلّفات البناء بعد أن تهدم السور الذي سوّرت به وامتدت إليها حمّى التجاوزات وبناء البيوت غير النظامية.
يقول (محمد الساعدي)، الذي يسكن منزلاً ملاصقا لهذا التل: قبل سنوات لم يكن التل بهذا الحال، بل كان مسوّراً بسور يحميه ويمنع التجاوز والبناء على أرضه، كما يمنع رمي الأزبال والأنقاض فيه. بينما اليوم تجاوزت البيوت على محرمات أرضه ومُلئت فضاءاته بالأزبال التي تزكم رائحتها الكريهة الأنوف، فضلاً عن تحوله الى مكان لقضاء الحاجات ومرتع للكلاب السائبة.
عند سؤالنا صاحب أحد الدور الذي تجاوز على مقتربات الموقع برغم تصنيفه كمنطقة أثرية يمنع البناء عليها قال: ليست لدي أدنى فكرة عن هذه الأرض، ومهما يكن من أمرها فإني مواطن ومن حقي أن أمتلك بيتاً، ومسؤولية الحفاظ على هذه الأرض، إن كانت كما تقولون أثرية، تقع على عاتق الدولة وليست على عاتقي!.
تركنا مملكة إشنونا تندب حظها، وتوجهنا الى المتخصص والباحث الميداني بالآثار الأستاذ المساعد في جامعة الموصل الدكتور فواز حميد حمو للوقوف على أسباب هذه الظاهرة فقال:
ـ ﻻشك أن النمو السكاني الكبير وقلّة الخدمات المقدّمة من قبل الأمانة وقلّة وعي المواطن حولت هذه الأماكن الى مكبّات للنفايات، هذا فضلاً عن ترك أغلبها دون حراسات، وإن وجدت هذه الحراسات فإن أغلب موظفيها لا يقومون بواجباتهم بالشكل الصحيح ما تركها نهباً لضعاف النفوس في استغلال أرضها والبناء عليها.
* برأيك، ما الحلول الواجب اتخاذها للحد من هذه الظاهرة؟
ـ هناك جملة من الحلول نستطيع بها الحدّ من هذه الظاهرة المؤسفة، منها التوعية بأهمية هذه المواقع من خلال وسائل الإعلام، والاستفادة من مقترباتها من قبل الهيئة العامة للآثار بتحويلها الى مواقع سياحية أو حدائق عامة.
شادوبوم
تل حرمل او ( شادوبوم) الذي تحوّل من أقدم جامعة في العالم الى ساحة لرمي النفايات يبكي حاله هو الآخر، فهذا المَعلَم الأثري المهم الواقع شرقي العاصمة بغداد أصبح أشبه بأطلال خربة تحاصرها الحشائش وبرك المياه، يعاني الإهمال والاندثار والتجاوز عليه. وتل حرمل هو بقايا إحدى أهم مدن إشنونا في العصر الأكدي، حيث يعود تاريخه الى ماقبل الميلاد بقرابة الألفي عام. وقد عثر الآثاريون فيه على أقدم المخطوطات والرُّقم الطينية التي تخص علمي الجبر والهندسة وأن قانون او شريعة مملكة إشنونا التي وجدت في أطلال هذا الموقع سبقت شريعة حمورابي الشهيرة بقرنين من الزمان.
(أبو أحمد الساعدي)، أحد الساكنين بالقرب من هذا التل، أخبرنا عن حاله قائلا: في السابق كان يحيط بهذا الموضع سياج، ورغم أنه كان سياجاً متآكلاً، إلا أنه كان يمنع عنه التخريب ورمي النفايات. ثم رفعت هيئة الآثار السياج (والحديث مازال لأبي أحمد) وصمّمت سياجاً جديداً، لكن السياج لم ير النور ليترك هكذا، حتى الحارس الذي كان يتولى حماية هذا الموقع قد سرّح من عمله.
بدوره، يقول الحاج رضا، الذي أبى إلا أن يشاركنا الحديث: لقد حافظنا على هذا الموقع الأثري من التجاوزات ومن السرقة ودخلنا في مشكلات عدّة دفاعاً عنه. ونناشد الجهات المختصة بضرورة الحفاظ عليه عن طريق بناء سياج له ووضع إنارة داخلية والاعتناء بنظافته وإنشاء منتجع سياحي بالقرب منه.
وعي المواطن
يعتقد (حسين العماري)، مدير آثار بابل، أنه من أجل الحفاظ على الكنوز الأثرية لابد من تعاون المواطن وتعزيز وعيه في هذه الأمور مهم جداً لأن جهد الدولة والقانون وإن كان نافذاً وقوياً، قد يكون بلا جدوى دون وعي المواطن وتعاونه. فنحن حتى في مقتربات مدينة بابل الأثرية نعاني كثيراً من مشكلة رمي النفايات.
*ماذا عن العقوبات المنصوص عليها التي تجرّم من يقوم بالتجاوز على هذه المواقع سواء برمي النفايات او البناء على محرماتها؟
ـ هناك عقوبات جرمية تعاقب كل من يتخذ من المواقع الأثرية مواقع للطمر الصحي تصل الى السجن مدة لا تزيد على عشر سنوات على كل من حفر او شيّد أو غرس او سكن في موقع أثري معلن أو أزال او حوّر او قلع او شوّه او هدم أثراً او بناء أثرياً أو تراثياً.
ختاماً، بقي لنا أمل في أن نرى مواقع آثارنا بلا أزبال، بلا نفايات، بلا إهمال، لتبقى حضارة العراق وكنوزه الأثرية سِفراً خالداً يحكي قصة حضارة موغلة في القدم.