“شيوخ وروحانيون”ينتحلون صفة أطباء وأكاديميين

624

حسين محمد عبد فيحان/

مع تراجع المستوى الصحي في البلاد تتسع ظاهرة الإتجار بمصائر ومصائب الناس من المرضى والفقراء، لاسيما ممن عجز الطب عن شفائهم في المستشفيات الحكومية والأهلية وعيادات الأطباء الخاصة التي تفتقر الى أجهزة طبية (تشخيصية وعلاجية) حديثة. فضلا عن افتقارها الى الرحمة الانسانية في الكثير من الجوانب, ليجد فيهم الروحانيون والمعالجون بالأعشاب والطاقة والقرآن كما يُطلقون على أنفسهم صيداً سهلاً لترويج أفكارهم وبضائعهم العلاجية الغريبة بأساليب مقنعة والقصة تروى.

طبيبٌ على باب روحاني!

ما الذي يدعو طبيباً جراحاً (اخصائياً) معروفاً على صعيد العراق في مجاله بـ (جراحة الجملة العصبية) أن يستهينِّ بشهادتهِ وتحصيله العلمي والأكاديمي ويقف هو الآخر مع مئات المرضى على أبواب أحد المعالجين الروحانيين بـ (الطاقة) منتظراً موعدهُ الذي حصل عليه بعد شهرٍ من الاتصال بسكرتيرة مكتب ذلك المعالج بالطاقة الروحانية, الذي شفي على يديه العديد من الحالات المرضية المستعصية (كما يقولُ المُراجعون له).

الدكتور (س.م.ن) من كربلاء اخصائي معروف بجراحة الجملة العصبية, التقيتهُ في مدينة الحلة على باب المعالج الروحاني الدكتور! (ك.م.ص) عند اعدادي لهذا التحقيق حيث ادعى الأخير انه حاصلٌ على شهادة الدكتوراه بالطب التكميلي والطاقة الروحانية من فرنسا وعلق العديد من الشهادات والصور التي تؤكد الادعاء بدرجة الدكتوراه من احدى جامعات باريس على جدران مكتب انتظار المراجعين ومعظمهم من المحافظات الوسطى والجنوبية وهم ينظرون بدهشة كبيرة لتلك الشهادات ويتحدثون عنها باعجاب ومبالغة. التقطنا صوراً لهذه الشهادات المعلقة على الجدران بسرية منعاً من أن يكشف أمرنا للتدقيق بها وبالجهات المانحة لها.

وجهت سؤالاً للدكتور (س.م.ن) بعد أن اختليت به خارج مكتب انتظار المراجعين الذي يكتظ بالمرضى وقد طلب مني أن لا أُشهِرَ بأسمه وعنوانه العلمي.

* ما الذي دعى طبيباً اخصائياً معروفاً بجراحة الجملة العصبية مثلك أن يقف على باب معالج روحاني؟..

– لدي طفل بسن الـ 12 عاماً, ظهر ورمٌ في رأسه وعند اجراء التحليلات المرضية له تبين أنه (مرض سرطاني خبيث) عرضته أيضاً على أطباء أجانب (هنود) في مستشفى الكفيل التخصصي بكربلاء وقد توصلنا الى إن أستئصال هذا الورم يسبب عمى الطفل أو شلله ولم يبق أمامي أي شيء لأفعله للمحافظة على حياة طفلي الصغير قبل أن أسافر به الى احدى مستشفيات المانيا سوى المعالجين الروحانيين بعد أن ألحت عليَّ عائلتي بالمجيء لهم وبالخصوص هذا الرجل الدكتور! (ك.م.ص) فانه حاصل على شهادة الدكتوراه بالطب التكميلي كما يشاع عنه وقد شفيت على يده حالات مرضية (مستعصية) عديدة كما قيل لي وكما يظهر في التسجيل الفيديوي الموضوع في صالة الانتظار (في الداخل).
وبعد أن دخل الدكتور (س.م.ن) وطفله المريض الى غرفة المعالج الروحاني ولدى خروجهِ سألتهُ ثانيةً عن طبيعة العلاج الذي اعطاه لولده..

فقال مجموعة من الأعشاب والعقاقير يتناولها صباحاً ومساء حسب جدول لمدة ثلاثين يوماً مع الامتناع عن أغذية خاصة، ونعود اليه بعدها وسيكون (الورم الخبيث) قد تضاءل حجمه وتأثيره كما وعدني بذلك.

اخذنا رقم هاتفه الشخصي للاتصال به ومعرفة حالة طفله بعد انتهاء المدة المحددة بشهر..

معالج روحاني

– بعد ساعات طويلة من الجلوس والانتظار جاء دورنا بالدخول الى غرفة المعالج الروحاني الدكتور! (ك.م.ص) حيث أدعيت (أنا) معد التحقيق أن الشخص الذي معي وهو صديقٌ لي (صحافي) أيضاً رافقني في جولاتي التحقيقية هذه, أن عقلهُ وصوابهُ وذاكرته لأبويه وعائلته قد فقدت منه منذ مدة تقدر بثلاثة أشهر.

بعد الدخول تحدث المعالج الروحاني الدكتور! (ك.م.ص) الى المريض بأسئلةٍ عامة وأخذ يُحدق فيه كثيراً.. ثم قال: أنه مصاب بمرض روحاني قد يكون نتيجة تعب نفسي وأكلهِ لوجبة عشاء فيها لحمٌ أحمر بأفراطٍ كبير ثم دخل للاستحمام بعدها فحدث اضطراب غذائي في جسمه تفاعل مع تعبه النفسي فسبب له ما يعاني منه. سأعطيه مجموعة من العقاقير الطبية عليه تناول ملعقة شاي منها مذابة بماء دافىء لا حار ولا بارد في قدح صغير قبل الأفطار صباحاً وقبل العشاء مساءً مع الامتناع عن تناول اللحم الأحمر بجميع أنواعه وكذلك لحم الدجاج الأبيض والأوز والبيض والسماح بلحوم الأسماك والعصائر الطبيعية فقط لمدة ثلاثين يوماً والعودة بعدها وستكون حالته الصحية أفضل إن شاء الله حيث كان ثمن المراجعة مع العلاج 125 ألف دينار (100دولار).

الخطوة التالية لفريق التحقيق كانت التدقيق في الشهادات المعلقة على جدران مكتب انتظار المراجعين والبحث والتحري عن شخصية وتاريخ المعالج الروحاني الدكتور! (ك.م.ص) فوجدنا:

إن هذه الشهادات غير رصينة وممكن أن تكون مزورة بنسبة عالية. فهي ممنوحة من قبل جمعيات ومؤسسات تعنى بالطب التكميلي والطاقة في باريس وليس جامعات أكاديمية.

تحرينا أيضاً عن العلاقات الاجتماعية للمعالج الروحاني الدكتور! (ك.م.ص)المقصود في تحقيقنا للوصول الى إجابات لتساؤلاتنا وفرضيتنا أعلاه. فوجدنا أنه يقيم في منزله هذا الذي فيه عيادته وورثه عن أبيه منذ سبعينات القرن الماضي بعد أن صادر حق أخويه في الميراث وهو الآن يعيش أشبه بالقطيعة الاجتماعية معهما.

أحد اخوته خارج العراق والآخر حصلنا على رقم هاتفه الشخصي واتصلنا به لزيارته لكنه اعتذر منا فوجهنا له بعض الأسئلة واجاب عليها متحدثاً. إن أخاه المعالج الروحاني لا يملك شهادة الاعدادية وقد غادر العراق في نهاية التسعينات الى فرنسا وعاد بعد العام 2003م مع احد الأحزاب السياسية وعمل في المجال السياسي لفترة مع تلك الجهة ثم تركها بعد ترشحه لإحدى الانتخابات وعدم فوزه فيها, وبعد العام 2008م قد امتهن العلاج الروحاني مستغلاً بذلك اسم والده الذي كان رجل دين معروفا بالمدينة ويحظى بشعبية وحب واسع من قبل الناس في مدينة الحلة.

_ بعد عشرين يوماً اتصلنا بالدكتور(س.م.ن) اخصائي الجملة العصبية لمعرفة حالة ولده الصحية بعد أخذه للعلاج الذي اعطاه له المعالج الروحاني . فقال لنا: إن حالة ولده قد ازدادت سوءاً و(الورم الخبيث) أخذ بالاستفحال في خلايا رأسهِ وأنه قد أتم كل شيء للسفر به الى المانيا بعد يومين من الاتصال لعلاجه هناك.

استاذٌ جامعي وشيخ مدعي!.

عند مراجعة فريق التحقيق لمكتب الشيخ (و.أ) في بغداد وجدنا المكتب مزدحماً بالمراجعين المرضى من أغلب محافظات العراق وأن مدة الحجز لاتقل عن شهرين للحالة المرضية مهما كانت فلم نتمكن من الحجز لطول المدة (شهرين) مع فترة اعداد التحقيق وقد طلبنا مقابلة الشيخ (و.أ) بصورة عاجلة إلا أن سكرتيرته الشخصية قد رفضت ذلك, قائلةً لنا يمكنكم الاتصال به على قناة (د) الفضائية التي يملكها الشيخ ويظهر بها بشكل يومي في السابعة مساء.

كنت قد علمت من قبل أن الأستاذ المساعد في جامعة بغداد الدكتور.(ك.ع.ع) اختصاص (بايولوجي, أحياء مجهرية) الذي تربطني به علاقة طيبة قد راجع الشيخ (و.أ) بخصوص طفله البالغ عشر سنوات والذي يعاني من شلل ولادي جعلهُ ينمو في فراشه راقداً.

ذهبت اليه في قسم علوم الحياة (البايولوجي) بكلية العلوم في جامعة بغداد.

كيف الحال دكتور.. وكيف أصبح حال ولدك (أ).. هل تحسنت حالته الصحية بعد مراجعته للشيخ (و.أ).. نتمنى أن يكون بخير
الدكتور(ك.ع.ع): شكراً على سؤالكم.. قبل حوالي تسع سنوات ولد طفلي الذي يعاني من شلل ولادي عام وهو بحاجة الى رعاية خاصة وعلاج طبيعي متطور ومستمر وطبعاً ذلك غير متوفر في مستشفياتنا وبما يتناسب مع حالة ولدي(أ)، ما اضطرني الى السفر بأستمرار الى عمان لاجراء علاجه الطبيعي المتطور وقبل حوالي ثلاث سنوات ونصف بعد أن ظهر الشيخ (و.أ) في الإعلام وادعى شفاء الحالات المرضية المستعصية ومنها حالات تشبه حالة طفلي (أ), الحَّ علي الأصدقاء والأقارب بالذهاب اليه وذهبت اليه في بغداد وقد وعدني بشفائه مقابل مبلغ قدرهُ عشرون ألف دولار على دفعتين, قائلاً لي أن هناك أعشابا طبيعية تجلب له من غابات في جنوب أفريقيا صعب الوصول اليها وقد وضع الله فيها أسراراً عجيبة منها شفاء حالات الشلل الولادي للأطفال وبفضل هذه الأعشاب شفيت حالات كثيرة, وأنا أبحث عن أضعف الآمال فقد صدقته وهيأت المبلغ واعطيته له على دفعتين, وقال لي أن ولدك سيشفى بعد ستة أشهر من الآن (تدريجيا) بمجرد أن يأخذ من هذه الأعشاب كل أسبوع جرعتين وكان يقرأ على رأس ولدي العديد من الآيات القرآنية، وما أثار استغرابي أن إحدى الآيات القرآنية قرأها على رأس ولدي بصورة غير صحيحة. ومضت الستة أشهر ومضى العام والحال لم يتغير حتى انتهت السنتان و(أ) على وضعه وكنت أراجعه باستمرار طوال المدة المنقضية وكان الشيخ (و.أ) يوصيني بالصبر وفاض صبري وطالبته بأسترجاع المبلغ بعد أن انتهت ثلاث سنوات فقام بالتهرب مني وعدم السماح بمقابلتي وكانت سكرتيرته تقول لي دائما أن المبلغ الذي اعطيته هو ثمن العلاج فهو غالٍ جدا لانه من خارج العراق من غابات في جنوب أفريقيا وبالقوة والتهديد استرجعت نصف المبلغ.

نصحوني بعض الأخوة بالذهاب الى شيخ عشيرة بني وائل في واسط (الشيخ عبد الحسين يدام) في محاولة لاسترداد نصف مبلغي المتبقي (10) الاف دولار وعند ذهابي لشيخ عشيرة بني وائل في الفرات الأوسط أنا وأخي الأكبر رحب بي بحفاوة كبيرة بعد أن عرف أني أستاذ جامعي وقال لي..

إن هذا الشيخ (و.أ) ليس له أصل في عشيرة بني وائل وهو لا ينتمي لها وأعتقد أن ادعاءه هذا الاسم لخداع الناس وتضليلهم, وقد اتصلنا برؤساء أفخاذ العشيرة ولم يعطنا أحد منهم أي شيء عن انتمائه وارتباطاته.

فبعد أن وصل الحال بأن تقف الطبقة المتقدمة في المجتمع على أبواب هؤلاء الروحانيين وتصدق بمعتقداتهم ولو لمدة تحت ضغط ظروف قاهرة فكيف هو الحال بالطبقات الوسطى والدنيا من المجتمع.

توجهنا بأسئلةٍ الى رجال دين وأكاديميين اجتماعيين حول ذلك..

الدكتور علي الخزاعي أستاذ بعلم الاجتماع في جامعة كربلاء بين سبب ذلك قائلاً:

عندما يشل الإصلاح الديني يسود سوق الخرافة وكل مجتمع هناك علامة على نباهته ووعيه أو ثولتهِ وانحدار مستواه الثقافي, فان سيادة الخرافة دليل على شلل المصلح وانتشار الإصلاح دليل على شلل الخرافة بين (الدين والدين المضاد)
أما الشيخ والباحث الديني حسين الخشيمي فقد أوضح الأسباب بـ عوامل عديدة منها:

_غياب الوعي الديني

_تدني المستويين المعرفي والصحي .

_الاهمال الحكومي في ملاحقة هؤلاء المعالجين الروحانيين (المشعوذين) وترك المجال مفتوحا أمامهم على مصراعيه.