عيدا الصيام الإيزيدي والميلاد المسيحي… فسيفســــاء التعايش والفرح
ريا عاصي
يحل شهر كانون الأول على العراق حاملاً معه أجواءً من البهجة والتأمل الروحي، حين تتداخل فيه الأعياد الدينية التي تعبّر عن التنوع الثقافي الغني في هذا البلد العريق. بين عيد الصيام لدى الإيزيديين، وأعياد الميلاد المجيد لدى المسيحيين في الشهر نفسه، يعيش العراقيون لحظات من الفرح والاحتفال التي تعكس قيم التعايش والمحبة بين مكونات المجتمع المختلفة.
عيد الإيزيديين
في منتصف شهر كانون الأول من كل عام، يحتفل الإيزيديون بعيد الصيام المعروف بـ(عيد إيزي). يستمر الصيام لمدة ثلاثة أيام يتبعها يوم العيد. الذي يُعد من الأعياد المقدسة حيث الامتناع عن الأكل والشرب من شروق الشمس حتى غروبها، تعبيراً عن التقرب إلى الله وشكراً على النعم. بعد إتمام الصيام، يجتمع الإيزيديون في أجواء احتفالية يتبادلون فيها التهاني، ويتشاركون الوجبات التقليدية، ويزورون الأهل والأصدقاء، ما يعزز روح التضامن بين أبناء الطائفة.
الميلاد المجيد
في ليلة 24 كانون الأول، تحتفل العائلات المسيحية في العراق بعيد الميلاد المجيد، الذي يُجسد ذكرى ميلاد السيد المسيح (عليه السلام). تكتسي الكنائس، مثل كنيسة مار يوسف وكنيسة القلب الأقدس في بغداد، بحلة من الزينة والأضواء، ويُقام قداس منتصف الليل الذي يُعد من أقدس الطقوس الدينية.
تجتمع العائلات بعد القداس لتبادل الهدايا، وتناول الأطعمة التقليدية، في أجواء يغمرها الفرح والسكينة. كما يشارك العديد من العراقيين المسلمين جيرانهم المسيحيين في هذه المناسبة، تعبيراً عن التآخي والتعايش.
طقوس المشاركة
تُعتبر (الكليجة) رمزاً للفرح الذي يعم جميع العراقيين بمختلف طوائفهم وأديانهم. في الأعياد والمناسبات، لا تقتصر على كونها مجرد حلوى تقليدية، بل هي أيضاً وسيلة للتواصل الاجتماعي والعائلي، إذ يتشارك الجميع في تحضيرها وتناولها. يُظهر تحضير الكليجة في مختلف المناطق العراقية كيف أن الأعياد تعكس الوحدة الوطنية والتعايش بين المكونات الثقافية والدينية في العراق، ما يجعل منها جزءاً حيوياً من التراث الشعبي الذي يعزز التعاون والمشاركة بين أبناء الوطن.
تقول الناشطة الإيزيدية رفاه حسن في حديث لمجلة “الشبكة العراقية” عن العادات التي ترافق عيد الصيام:
“عادةً ما يبدأ التجمع في الصباح الباكر، إذ تتعاون النساء معاً في تحضير المكونات، من الدقيق والسمن والسكر، إلى التمر أو المكسرات للحشو. تعد عملية تحضير الكليجة أكثر من مجرد صناعة طعام؛ فهي مناسبة لتبادل الأحاديث، وسرد الذكريات، وتعزيز الروابط العائلية والاجتماعية بين النساء في العائلة أو الحي.” مضيفةً: “كما أن تجمعنا هذا لا تنتج عنه الكليجة فقط، بل نقوم بصناعة المخبوزات، مثل خبز الرقاق، بالإضافة إلى صناعة (الكبة) التي تشتهر بها مدينة الموصل بكل مكوناتها.”
أما السيدة رمزية وردة، وهي مسيحية من أصول موصلية، فتحدثت عن عيدهم بالقول: “في أول أيام العيد، يجتمع أفراد العائلة في البيت الكبير لتناول أكلة (الباجة) الشهية والدسمة، إلى جانب الأحشاء المحشوة بمزيج من اللحم والأرز أو البرغل. بينما يفضل آخرون تناول كبّة (اليَخْنِي)، التي تُصنع من طحين الأرز الممزوج باللحم، وتُحشى بـاللحم والبصل، وتُطهى في مرق اللحم مع الحمص والبصل.”
شجرة الميلاد
تعد شجرة الميلاد من أبرز مظاهر احتفالات العراقيين في موسم الأعياد. على الرغم من أن هذه التقاليد جاءت من خلفيات ثقافية ودينية متنوعة، فإنها أصبحت جزءاً من التراث الاجتماعي العراقي، حيث يحرص العراقيون عامةَ، والمسيحيون خاصة، على تزيين شجرة عيد الميلاد في منازلهم.
الشجرة عادة ما تكون مزيّنة بالأضواء الملونة التي تضفي على المنزل لمسة سحرية، حيث تنبض ألوان الأضواء بالفرح والأمل. بالإضافة إلى الأضواء، يجري تزيين الشجرة بـ الكرات الزجاجية والأكاليل الذهبية والزهور، وكذلك النجمة التي تُوضع في قمة الشجرة، وهي رمز لنجمة بيت لحم التي قادت ثلاثة من حكماء المجوس إلى مهد السيد المسيح.
سحر المدن
تنتشر أشجار الزينة في الأماكن العامة، مثل الحدائق والساحات الكبرى، حيث تسهم في نشر الأجواء الاحتفالية في الشوارع. في بغداد، على سبيل المثال، تضاء بعض الساحات بالأنوار الزخرفية وتُزيّن الأشجار بالألوان الزاهية لتضيف لمسة من السحر على المدينة، في وقت تلتف فيه العائلات والزوار حول المولات والأسواق التي تُعرض فيها الهدايا والديكورات الخاصة بالعيد. هذه الأشجار تضفي على المدن لمسة دافئة، وتُشعر الجميع أن فصل الشتاء هو موسم الفرح والاحتفال.
احتفالات عراقية
لا تقتصر أجواء كانون الأول على مكون ديني بعينه؛ بل تمتد لتشمل جميع العراقيين، الذين يرون في هذه الأعياد فرصة للتأكيد على روابط المحبة والسلام. إذ تتزين شوارع المدن الكبرى مثل بغداد والموصل والبصرة وبقية المحافظات بالأضواء والديكورات، ويشترك الجميع في فرحة رأس السنة الميلادية التي تُختتم بعروض الألعاب النارية والاحتفالات العامة.
تُبرز هذه المناسبات كيف يثري التنوع الثقافي والديني المجتمع العراقي، وكيف تصبح الأعياد مساحة للتعبير عن قيم التسامح والمودة في مجتمع أثبت للعالم أن قوته مستمدة من تنوع أديانه وقومياته.