في المحميات غزلان الريم تواجه الموت جوعاً

335

يوسف المحسن /

الكتل الإسمنتية تزحف بوجه متجهم على السحنة الخضراء في كل مكان، ثمة تآكل وتدهور للموارد الطبيعية، العقود الستة الماضية شهدت انحساراً مخيفاً في أعداد الحيوانات والنباتات البرية، فلا الصقر العراقي، ولا شجيرات الغضا، ولا الريم العراقي، ولا السمك العراقي، صارت مرئية، إلا داخل أسوار بائسة، او كصور جامدة في مناهج الصغار، إنه الرعي الجائر للتنوع الإحيائي.
لعقود طوال كان التنوع الإحيائي (البايولوجي) تعبيراً عن التعايش الحقيقي المسالم بين المجتمعات البشرية والكائنات الحية الأخرى، الغطاء النباتي والمستعمرات الحيوانية في البوادي والأرياف شكّلا هوية هذا التعايش الفريد الذي صبغ البيئة العراقية بالتنوع، الذي كان ملهماً للدارسين الشغوفين بالكم الهائل من التآلف الساحر، في البادية كانت قطعان غزلان الريم وأسراب الطيور النادرة والصقور والأرانب والحيوانات المفترسة، وفي المسطحات المائية كانت أنواع من الأسماك النهرية التي اختفت، او انحسر وجودها اليوم، إلا في أحواض التربية. زحف الحياة العصرية الجامدة مَسَخَ هذا التنوع وأحاله الى مشهد لفوضى مربكة، كما يصفه الخبير البيئي الدكتور علي حسين حنوش، الذي قال إن “البيئة العراقية فقدت 50 ـ 60% من مصادر تنوعها الإحيائي، ولم تبقَ حيوانات او نباتات برية كما كانت قبل ستين او سبعين عاماً، لقد جر قطار التقنية والسياسات البيئية الخاطئة الويلات على التنوع البايولوجي، حتى وصل الحال بالأشخاص العاديين الى الكف عن البحث عن شجرة في البادية الجنوبية لقضاء بعض الوقت تحت ظلها والتمتع بجمال الطبيعة.”
حنوش، الحاصل على شهادته العليا في علوم البيئة، أكد في تصريح لـ(الشبكة) أن “البيئة العراقية باتت أمام معضلة حقيقية اسمها التهديدات التي تطول آخر مصادر التنوع البايولوجي والإحيائي وسط إجراءات خجولة للحد منها.”
المحمية ليست محمية!
على مساحة خمسمئة دونم أنشئت محمية ساوة الطبيعية في العام 2011، إنشاء المحمية كان جزءاً من خطة حكومية شملت أربع محميات لإيواء الحيوانات الصحراوية النادرة والمهددة بالانقراض، من بينها غزال الريم العراقي، فبالإضافة الى مئة وثمانية وأربعين غزالاً، نصفها من الإناث أضيفت أعداد من طيور النعام الإفريقي وبعض من الطيور البرية، وبعد غياب لسنين، عاد غزال الريم العراقي الى البادية الجنوبية، والهدف من إنشاء المحمية كان الحفاظ على هذا التنوع الإحيائي لإدامة التوازن الطبيعي في البيئة الصحراوية، وحماية الأنواع النادرة المهددة بالانقراض، بعد أن شهدت هذه الأنواع عمليات قتل منظمة وعشوائية وممارسات للرعي الجائر للأعشاب والنباتات الطبيعية، لذا احيطت المحمية بسياج BRC وجرى حفر سبع آبار ارتوازية لاستغلالها في عمليات سقي النباتات وإرواء الحيوانات، أضيفت لها أنواع مختلفة من الشجيرات، كـ الغضا والرمث والشنان، وأنواع نادرة من النباتات مثل العاذر والبطنج والدعداع، وكان ينظر للمحمية كميدان علمي لإجراء الأبحاث الميدانية على النباتات الصحراوية، التي تصل الى أربعين صنفاً نادراً، ووفقاً لتصريحات القائمين -في حينها- فقد صُممت المحمية وفق نظام الاكتفاء الذاتي بحيث تحصل الحيوانات فيها على الغذاء مما تنتجه المساحات الزراعية الواسعة التي تمتد عليها، فالهدف كان كبيراً والطموح هو إعادة غزال الريم العراقي ذي الشكل الجميل الى البادية، على أمل أن تسبق ذلك سلسلة من التشريعات التي تحرم الصيد الجائر للحيوانات والقطع العبثي للنباتات والشجيرات.
هذه التحضيرات والإجراءات ذهبت أدراج الرياح في مواجهة واقع تواجهه المحمية التابعة الى وزارة الزراعة اليوم، إذ يقول مديرها الدكتور تركي محل الجياشي إن “غياب التخصيصات المالية كان سبباً في نفوق أعداد كبيرة من الحيوانات فيها وتعطل أعمالها.” مضيفاً أن “توقف تجهيز المواد العلفية، بسبب تداخل الصلاحيات بين وزارة الزراعة والحكومة المحلية، أصاب مشروع المحمية بالشلل التام، وهي على وشك الإغلاق، ولاسيما مع حصول هلاكات يومية مستمرة بين الغزلان.”
الجياشي أوضح لـ(الشبكة) أن “وزارة الزراعة رمت الكرة بعيداً عنها وألقت باللائمة على الحكومة المحلية، بينما الأخيرة تؤكد أن لا أبواب صرف مالي تسمح لها بشراء الأعلاف، ومنذ أكثر من شهرين ونحن في هذه الحلقة المفرغة التي تسببت بحالات هزال كثيرة عند الحيوانات، وظهور أمراض ناجمة عن نقص مناعتها نتيجة لغياب الأدوية واللقاحات والغذاء الكافي، لهذا نحن نفقد يومياً من خمسة الى سبعة حيوانات وسط انتشار لحالات من التسمم المعوي.”
من جانبه، يصف مربي الحيوانات المعين في المحمية، ريس النويني، ما يراه من هزال باد على الغزلان بأنه شيء محزن يهدد بهلاكها جميعاً. النويني قال إنه “يحصل على تبرعات من المزارعين المحيطين، لكنها لا تكفي ولا تسد رمق الغزلان التي تحتاج الى كميات كافية من الحنطة والشعير والغذاء المركز، وهي اليوم تمر بحالة جوع تهدد حياتها.” يستطرد الجياشي قائلاً: “غزال الريم العراقي هو من الحيوانات النادرة جداً المهدد بالانقراض، وإذا ما فقدناه فنحن نفقد أعداداً مهمة تمثل قيمة بيئية ترتبط بالتنوع الإحيائي رافقت المشهد البيئي العراقي منذ آلاف السنين، ونحن نحتاج الى حلول آنية عاجلة -كمرحلة أولى- ثم خطة بعيدة المدى لضمان تدفق متطلبات العناية بالحيوانات.”
تجارب فردية خجولة
الحفاظ على التنوع الإحيائي والحياتي في البادية الجنوبية صار شغلاً شاغلاً للقائمين على القطاعين الزراعي والبيئي خلال العقدين الماضيين، لكنه الشاغل الذي يقول عنه الدكتور علي حنوش إنه “مجرد حبر على ورق، فتجارب المحميات الطبيعية خجولة بالمقارنة مع دول مجاورة على أقل تقدير مثل لبنان أو الأردن أو جمهورية مصر العربية وبلدان أخرى.” يضيف حنوش: “موضوع المحميات الطبيعية واحد من الحلقات الرئيسة والمهمة للحفاظ على التنوع البايولوجي، سواء الحيواني او النباتي، الذي يهتم به المتخصصون لكن، يا للمفارقة.. فإنه لا يجذب إليه اهتمام الجهات المعنية، وغزال الريم العراقي من بين القضايا المثيرة للاهتمام، كونه يعود الى موطنه الأصلي في البادية الجنوبية العراقية، وإلى نهاية الستينيات من القرن الماضي كنا نلمس حضوراً للأنواع التي أصبحت نادرة من الحيوانات والطيور والنباتات البرية، أما الآن فإننا نواجه صعوبة في الحفاظ عليها حتى داخل أسوار ومساحات جغرافية محددة ومسيطر عليها.”
إن حماية التنوع الإحيائي من عمليات الرعي والصيد الجائرين وزحف المدن، لإبقاء المشهد الطبيعي نقياً مفعماً بالحياة، ليس شاغلاً كمالياً او ترفيهياً، بقدر ما هو أولوية بيئية واقتصادية واجتماعية، إذ يعد الدكتور حنوش هذا التنوع “ثقافة مجتمعية وسلوكاً حضارياً جمعياً لابد من أن يشارك فيه الجميع، سواء أكانوا مؤسسات حكومية أم مؤسسات مدافعة عن البيئة، او أفراداً يمتلكون القدر الكبير من الوعي والإدراك لأهمية وحساسية المحافظة على هذا التنوع.” داعياً وزارات الزراعة والبيئة والثقافة والتعليم العالي والتربية الى “إيلاء الموضوع أهمية خاصة والاستعانة بالخبرات الدولية وعدم الاكتفاء بالتفرج والاختباء خلف أعذار وصفها بالواهية، مثل نقص التخصيصات المالية.”
وأثيرت قضية التنوع الإحيائي والبايولوجي في البيئة العراقية بعد انتشار مقاطع فيديوية على شبكات التواصل الاجتماعي وعدد من القنوات الاعلامية، تصور مشاهد لهلاكات واسعة في محمية ساوة الطبيعية للعشرات من غزلان الريم النادرة، تحت ضغط من غياب للأعلاف والعناية الطبية، وهي المشاهد التي فتحت باب الجدال من جديد حول الآليات المطلوبة لإنجاح تجارب المحميات الطبيعية كجدار صد يقول عنه المتخصصون إنه الأخير للحفاظ على التنوع الاحيائي في البادية العراقية.