في سوق النجارين بالعمارة.. مهنٌ تواجهُ الاندثار

357

كتابة: نصير الشيخ /

خطانا قادتنا إلى الجلوس في المحل الصغير المكتظ بأنواع الخشب والسلاسل والمناجل، حيث استقبلنا -بروح طيبة وترحاب كبير- الشيخ فرحان يحيى أبو سعد المندائي، الذي ورث هذه المهنة عن آبائه وأجداده، ومازال يعمل فيها بشغف وروية، حدثنا قائلاً: “إن أي عمل قديم، من نجارة وحدادة وحياكة، أعتبره عملاً مميزاً، لأنه يعكس معرفة الإنسان بما علّمه (الرب): وعلمنا الإنسان..
والصابئة المندائيون، سكنة العراق -وجنوبه تحديداً- قرب الأنهار، امتهنوا هذه المهن الرئيسة: الحدادة، والنجارة، والتي تشمل صناعة القوارب التي اشتهروا بصناعتها حتى اللحظة، لماذا؟ لأنها وسيلة التنقل النهري منذ أقدم الأزمنة، والمسحاة، أيضاً، هي الآلة المستخدمة في الزراعة لقلب التربة، والمنجل لحش النباتات والحشائش والخضراوات، كذلك (الفدان) الذي اختفى صنعه تماماً، وهو الآلة التي تشد على ظهر الثور لحرث الأراضي الزراعية.”
جودة عالية
“في ميسان – منذ القدمْ- توارثنا، أباً عن جد، هذه الصنعة لمصلحة ونفع الناس، نعرف قيمتها وكسب رزقها، و(مثل ما تشوف).. نصنع كل شيء: المسحاة، والمنجل، وحتى الـ(البلام – جمع بلم)، وكل ما يحتاجه المزارع ابن القرية وابن الهور. و(بيني وبينك هاي المهنة المصلحة على وشك الاندثار يوماً بعد يوم..!! بسبب دخول المستورد الأجنبي وغزوه الأسواق المحلية).”
“إن المنجل الذي أصنعه بيدي -والقول للشيخ فرحان يحيى- هو من الحديد الجيد وبتقنية عالية، والزبائن يقبلون على عمله لدي وشرائه، لأن فيه جودة عمل، فالمصنَّع يدوياً أطول عمراً وأكثر كفاءة. والخشب هو المادة الأولية في عملنا بنوعياته (الغَرَبْ والتوثْ والقَوغْ) وهناك نوعيات محسنة من جذوع الأشجار نستخدمها هنا، والسلعة المصنعة لدينا غالية الثمن -نوعاً ما- مقارنة بالمستورد الجاهز.. ذلك أن سلعتنا تتميز بجودتها العالية، وفيها تعب ووقت وجهد يدوي كبير، فمثلاً المواد المستخدمة في صناعة المنجل اليدوي -مثلما ترى- هي: الحديد الخام، والمِبردْ، ومبارد صغيرة، والمِحدْ لإظهار أسنان المنجل لزيادة كفاءته في حش النباتات، كذلك نستخدم المنشار و (الجاكوج).”

أدوات يحتاجها الفلاحون
وأبناء الهور
مواطنون من القرى والأرياف وأبناء الهور مازالوا يقتنون هذه الصناعات اليدوية وأبرزها: المنجل، وربد المسحاة، والمردي الذي يستعمل لتسيير(الطرادة) او (المشحوف) في المياه الضحلة، و(الغرافة) لتسييرهما في المياه العميقة. وهناك من يصر على عملها يدوياً لدى أبناء الطائفة الصابئية اعتزازاً بها كصناعة شعبية وتراثية.
يقول الحاج هشام كاظم، صاحب محل لبيع الأقفال والمفاتيح، عن هذا السوق: “يسمى (سوق النجارين) منذ القدم، وذلك لكثرة معامل ومحال النجارة وصناعة الموبيليات فيه، مع عدد من المحال الصغيرة التي يشغلها الإخوة الصابئة المندائيون في أعمالهم، ومذ كنت صغيراً كنت أشاهد صناعة الأدوات الزراعية التي يشكل الحديد مادتها الأساس، إذ يعالج بالنار تحت تأثير الطرق الشديد، ثم يدخل الى (الكورة) التي يزيد من سعيرها (المنفاخ – منفاخ الهوا)، وكان الكثير من المشتغلين في هذا الصناعات يشغلون محال هذا السوق في مركز مدينة العمارة وبصناعات وإنتاج عالي المستوى ولنقول بـ(نكهتها) الشعبية وإصرارها على عدم الاندثار ومقاومتها مد المستورد التي يملأ أسواقنا، وممكن تلتفت الجهات المعنية للاهتمام أكثر بهذه الصناعات الشعبية ودعم العاملين فيها لأنها تعكس تراث وفولكلور هذه المدينة.”” بصراحة، نحن الذين نسكن منطقة هور(أبو نعاج)، نحتاج في شغلنا وعملنا الى هذه الأدوات، إذ أننا نرغب بالسلعة الجيدة التي يشتغلها إخواننا الصابئة، ولاسيما الآلات اليدوية، لمتانتها وجودتها في العمل، وبصراحة هو شغل نقتنع به، مثل (الربد) فهو من نوعية خشب ممتازة، كذلك (المسحاة) التي نستخدمها في حفر الأرض والزراعة.”
هذه مداخلة المواطن أحمد سالم، أحد سكنة الهور ضمن حدود محافظة ميسان. يظل سوق النجارين ممراً يصل القديم من المهن الشعبية بحاضرٍ يرنو الى مغيب لهذه المهن والصناعات، لكن لها أثرها الذي لا يزول.