قصة حياة “معاملة” تولد ورقة وتشيخ في حقيبة ملأى

862

مازن الربيعي – تصوير:حسين طالب /

جرت العادة في التقاليد السينمائية المرعية في كل العالم أنه إذا تحولت قصة حقيقية إلى فيلم سينمائي، فإن من الواجب الأخلاقي والمهني والقانوني أن ترد عبارة تشير إلى أن هذا الفيلم مستوحى من قصة حقيقية، يكتبون
(BASED ON TRUE STORY). الحكاية في هذا التحقيق مستوحاة من قصة حقيقية وحدثت وتحدث وستحدث ملايين المرات في العراق، بنظامه الإداري القائم إلى الآن على النسخة العثمانية .. أتمنى لكم مشاهدة ممتعة:
لملم أبو حسن مستمسكاته وعائلته وتوجه الى أقرب محكمة على محل سكناه لإصدار قسام شرعي لوالده المتوفى، واستبشر خيراً عندما طبع له “العرضحالجي” ورقة واحدة فقط راجياً فيها القاضي الأول إصدار ذلك القسام، أخذ الورقة ومشى نحو القاضي وهو يقول في سره الحمد لله ..تبدو المعاملة (سهلة!).
“الإدارة لإجراء اللازم” هذا ما كتبه القاضي الأول في هامشه.
– مرحبا ست
– أهلاً
– القاضي حول هذه الورقة إليكم
– شنو؟
– طلب قسام شرعي
– لحظة
– تفضل “جيب ذولي”
الى مستشفى….. يرجى تزويدنا بنسخة مصدقة لشهادة الوفاة
الى المجلس المحلي يرجى تزويدنا بتأييد سكن الموما اليه
الى دائرة أحوال…. يرجى تزويدنا بصورة قيد العائلة كافة التأشيرات على ان تردنا بالبريد الرسمي.
“ابو حسن اذا مو زحمة استنسخ المستمسكات كلها على نسختين”
يا الله.. لقد صارت الورقة أربعاً وتحول الطلب الى معاملة.
تلك ببساطة شديدة بداية رحلة أي معاملة في العراق، تبدأ بورقة ولا تنتهي بحقيبة.
أحوال مدنية
نفذ أبو حسن ما طلب منه في ما يخص المستشفى والمجلس البلدي وذهب الى دائرة الأحوال التي فيها سجلات عائلته، وقدم للضابط المسؤول كتاب المحكمة فهمش له ” مفوض…… لإجراء اللازم أصولياً”.
أخذ أبو حسن تهميشة الضابط الى المفوض الذي فتح سجل العائلة وبدأ بسؤاله عن عائلته وأسمائهم ومواليدهم وعن المتزوجين فيها والمتوفين أيضاً، وقد أجاب على اسئلة المفوض جميعها إلا سؤالاً واحداً عن أختٍ له متوفاة قبل خمسين عاما لم تؤشر وفاتها في حينها.
طلب المفوض من أبي حسن أن يذهب الى شؤون الأحوال بكتاب للاستفسار عن هذه الحالة واخطاء “بسيطة” أخرى ظهرت في السجل.
وصل الرجل الى المديرية المذكورة ليجد عشرات المراجعين يحملون بين أيديهم أوراقاً وملفات اختلفت ألوانها كما اختلفت مضامينها بين اسم بنقطة “طافرة” من مكانها وحرف يقرأ باكثر من قراءة.
اندمج أبو حسن مع المراجعين يسمع مشكلة هذا ويضحك على مشكلة ذاك ليرتفع بعد قليل صوت لرجل كبير في باحة الدائرة وصل الى أسماع مدير الدائرة اللواء رياض جندي الكعبي الذي ترك مكتبه ووصل بأسرع ما أمكنه الى مصدر الصوت، استمر الشيخ بالحديث: أخطاء “وين متروح” في السجلات في الهوية أخطاء نتفاجأ بوجودها في سجلاتنا التي هي بحوزة دوائر الاحوال لا نعرف من أين أتت؟ وعندما نريد تصحيحها ندخل في دوامة لها أول وليس لها آخر، ولا نعرف حتى طريقة هذا التصحيح، طلب اللواء رياض من الرجل الهدوء ثم شرح له هذه الأخطاء: أكثر الاخطاء التي تردنا هي أخطاء تراكمية من السنوات السابقة بسبب استعمال السجلات الورقية والاعتماد على الكتابة اليدوية او تقديم المواطن وثائق غير صحيحة ومنها قلة خبرة الموظفين أو التحريف والتزوير في السجلات والأخطاء الإملائية والأسماء الغريبة.
تقوم المديرية بقسميها الواقعات والسجلات بتدقيق الوثائق المقدمة من المواطن وطلب ما يثبت صحة صدور تلك الوثائق وإصدار الإيعازات بتصحيح تلك الأخطاء بموجب القوانين النافذة الى دوائر الأحوال المختصة.
هذه الإيعازات قسم منها تقع ضمن صلاحية مديريتنا وقسم منها صلاحيتها موكلة الى مديرية الأحوال المدنية، وهذه الصلاحيات وحسب توجيه وزير الداخلية أعطي قسم منها الى دوائر الأحوال في المحافظات للتخفيف عن كاهل مواطنيها هناك.
استمر الحديث مع مدير شؤون الأحوال من قبل بعض المراجعين عندما قال أحدهم: إن أمناء السجل المدني موظفون أغلبهم ليسوا من أصحاب الاختصاص، حتى أن بعضهم تنقصه الشهادة، لكن مدير الدائرة أجابه: إن هذا الكلام غير دقيق فأكثر أمناء السجل المدني الآن من خريجي الكليات والضباط لحساسية هذا السجل وهم مؤتمنون عليه، والقلة القليلة من الموظفين السابقين ليسوا من أصحاب الشهادات العليا لكنهم أصحاب خبرة متراكمة وهذه الأخطاء التي ترونها كلها ليس لنا ذنب بها.
دخل اللواء رياض بنقاش مفتوح مع المواطنين فقال أحدهم: ولماذا نتحمل نحن هذه الأخطاء؟ والمفروض ان يتحمل تصحيحها الموظف الذي أخطأ! هذا الكلام غير دقيق، أجابه المدير، وأضاف: القيد خاص بالمواطن وهو أعرف بحالته الاجتماعية والعائلية ونحن نعمل مع وزارات عدة مثل وزارة الصحة ووزارة العدل فعقود الزواج وحجج الولادة والوفاة تصدر من المحاكم وبيانات الولادة تصدر من وزارة الصحة فنضطر الى الطلب من المواطن أن يثبت صحة أوراقه ومستمسكاته من تلك الدوائر حتى يتسنى لنا ان نبت في معاملته ومطابقتها للأحكام والقوانين حفاظاً على هويته وحقوقه والتصحيح مسؤولية مشتركة بيننا وبين المواطن نتحمل نحن جزءاً وانتم المواطنين تتحملون الجزء الآخر.
والحمد لله بدأت وزارة الداخلية بالتسجيل الالكتروني الذي يعدّ خطوة مهمة في إصدار الهويات والأوراق الثبوتية الأخرى، وقد ساهم ذلك في تقليص الأخطاء الى نسب تكاد لا تذكر، وعجّل العمل وحافظ على حقوق المراجعين بالحجز الالكتروني والطباعة الالكترونية ونوعية البطاقة وعدد الأوراق الثبوتية التي تتطلبها المعاملات في الدوائر الأخرى.
اتسعت دائرة المناقشة والشكاوى وتكلم رجل عرف عن نفسه أنه “جبار” ومن أهالي مدينة الصدر عن مشكلته التي قال إنها بلا حل ويريد جهة أخرى لها صلاحية البت فيها إذا عجزت مديرية شؤون الأحوال فأجابه اللواء رياض: لا توجد هنالك معاملات ليس لها حل إذا كان هنالك ما تثبت ادعاء المواطن فغالبية العراقيين مسجلون في التعدادات التي أجريت سابقاً هم أو أهلهم أو أجدادهم، وهذه التعدادات موجودة ومحفوظة، أما المعاملة التي تحتوي على اخطاء ليس لها سند فتعرض على هيئة الرأي، وإذا عجزت ترفع المعاملة الى الدائرة القانونية في مديرية الأحوال والدائرة القانونية في وزارة الداخلية لتكييف حالتها وفق القانون وهذا طبعاً يحتاج الى وقت بين البريد والتنفيذ.
الاستعلامات
دخل على خط المناقشة رجل قال إن اسمه “قصي” وإنه “منتسب” قائلاً: سيادة اللواء نحن موظفون لا نملك في العادة الوقت الكافي للمراجعة، نصطدم عند مراجعتنا بالاستعلامات ولا يسمحون لنا بالدخول الى القسم المختص لمناقشة الضابط المسؤول بل يستلمون منا المعاملات، ضحك اللواء رياض وأجابه: نحن في مديرية شؤون الأحوال ليس لدينا موظف استعلامات لكن لدينا مكان لاستلام المعاملات يتناوب على الوقوف فيه ضباط القسم المختص لاستقبال المراجعين واستلام معاملاتهم والاستفهام منهم على طبيعة تلك المعاملات ثم تسليمها إلى الموظف المختص مشروحاً عليها الإجراء الواجب اتخاذه، وأحياناً تجد مدير القسم جالساً على هذا الكرسي وساعة أخرى لمعاونه وثالثة لضابط آخر.
انتهى الدوام الرسمي في المديرية وخرج أبو حسن بنصف سن ضاحك بعد أن علم أنّ معاملته التي اشترى لها حقيبة لحملها اكتملت هنا، ولكنها كانت البداية لمعاملة أخرى بين دائرة أحواله المدنية والمحكمة.